"لا عودة للمستعمرين إلى الشمال..." ما لم تتوقّف آلة الحرب الإسرائيلية عن ارتكاب المجازر في غزة. و"لن تتوقف جبهة الجنوب عن إسناد غزة مهما بلغت التضحيات". 

هو الشمال والجنوب، أصل الحكاية. يعود الحديث عن حرب الشمال والجنوب إلى العام 1861، إذ كان الشمال يرفع شعار تحرير العبيد وإلغاء نظام الرق فيما كان الجنوب يستغلّ هؤلاء ويقيم نظاماً اقتصادياً مالياً فوق عذاباتهم وآلامهم. انتهت الحرب بانتصار الإنسانية وأصبح من حق هؤلاء الذين استغلهم الجنوب أن يقرّروا مصيرهم. تنعكس الصورة اليوم بين شمال فلسطين المحتلة وجنوب لبنان حيث يقف الجنوب مع حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم فيما يلعب "الشمال" دور الاحتلال والقمع والقتل. 

ويكتسب التمييز بين الشمال والجنوب أبعاداً أخرى، فالشمال الغني يقابله الجنوب الفقير، الشمال المتقدم بمواجهة الجنوب النامي، الشمال المستعمر والجنوب الباحث عن الحرية. هذه حالنا في جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة. فلسطين التي كانت من دول الجنوب، لكن المستعمر لم يتركها إلّا لينصّب فيها أداة تخدم مصالحه. في فلسطين، الأرض "جنوبية" والنظام "شمالي". من هنا هي معركة ضدّ الاحتلال، لا ضدّ الوطن والشعب والأرض. 

في فلسطين، الأرض "جنوبية" والنظام "شمالي".

تطوّر الشمال التقني والعسكري وفّر لأداته في المنطقة قدرات عسكرية لا تضاهى. أمّا وصف إسرائيل بالأداة فهو مستوحى من كلام المسؤولين الغربيين، رعاة إسرائيل وحلفائهم. وليس في هذا أي انتقاص، حتى أن رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو قال في أكثر من خطاب إنّه يحارب نيابة عن أميركا والغرب. وبالتالي، فإن جبهة الشمال في فلسطين المحتلة تقدّم نفسها خط الدفاع الأول عن الشمال. ولكن، هل يمكن النظر إلى هذا الشمال على أنه فعلاً الشمال الذي تميز برفع شعارات الحرية والإنسانية؟ هل يمكن التعامل مع هذا الشمال على أنه داعم للديمقراطية ولحق الشعوب في تقرير مصيرها؟ أمّا جبهة الجنوب فهي جبهة الفقراء أبناء الأرض، هم زرعها وحصادها، هم الذين يتصدون لأطماع الدول في أرضهم ومياههم ونفطهم وحتى سمائهم. 

بالأمس، كان لبنان كلّه الجنوب، قلب بيروت كان في ضاحيتها الجنوبية، الغارة المعادية أصابت كلّ الوطن، الطائرات المغيرة فخر صناعات الشمال، شمال آلات القتل والتفوق الإجرامي، صورة ركام الأبنية أعادتنا بالذاكرة إلى حرب تموز. قبل يومين كانت الصورة لبنك الدم المتنقّل فوق كل حبة تراب في هذا الوطن. ظنّت إسرائيل أنّها، باستهداف عيون المقاومين وأيديهم، إنما تقوم بتحييدهم، وهو المصطلح المفضّل عندها لوصف جرائمها. لم يخطر في بالها أن تسمع تلك الأصوات التي ارتفعت في غير مكان مبديةً استعدادها للتبرع بالعيون والدماء. لم تكن تعلم مدى اليقين الموجود في قلوب بيئة المقاومة، والذي بدا كأنّه انتقل إلى بيئات لبنانية مختلفة. لم يصدّق الإسرائيليون ما يرون، وهم يتابعون كلام أهل الضحايا عند أبواب المستشفيات. 

ما ارتكبته إسرائيل كان سابقة في الحروب، جريمة موصوفة، بل مجزرة بكل ما في الكلمة من معنى. إسرائيل ارتكبت خطيئة كبرى، على العالم كله، خصوصاً "الشمال"، أن يتحمّل مسؤوليته في محاسبتها. أين هو الشمال الإنساني مما جرى؟ هي خطيئة كما أنها خطأ. فإسرائيل اختارت التوقيت المخطئ لتنفيذ هجومها هذا، وكشفت عنه في غير وقته، فجنّب  ذلك "حزب الله" كارثة لو أن الخرق حصل خلال الحرب في حال اندلاعها. 

صحيح أنّ إسرائيل استهدفت إحدى شبكات الاتصال في بنية الحزب، ولكن ما جرى لا بدّ أنه سيوفّر فرصة لأن تعيد المقاومة فحص كلّ شبكاتها معداتها ومخازنها وأنفاقها. كما أنّ إسرائيل وفّرت للحزب تعاطفاً واسعاً كان قد خسر بعضه بعد مرور 11 شهراً على فتح جبهة الجنوب. كذلك حرمت إسرائيل المبررين لها من ورقة أنها تستهدف المقاتلين فقط، إذ كشفت عن وجهها الإجرامي الدموي المكشوف أصلاً ولم يعد بإمكان أحد تجاهله. حتى أولئك الذين درجوا على تكرار مقولة "إسرائيل عدو، ولكن..." لم يبقَ بمقدورهم اعتماد الأسطوانة نفسها. أصبح الموقف الوحيد المقبول هو "إسرائيل عدو ونقطة ع السطر". 

قبل الغارة وقبل "مجزرة البايجرز" كانت الحرب بين الشمال والجنوب بمعناها الجغرافي، وحتى بمعناها التاريخي، إنما اليوم هي حرب دخلت عليها التقنيات الحديثة، ولم تبقَ محصورة بساحة قتال واحدة، ولا بنوع واحد من المواجهة. حرب الشمال والجنوب هي حرب تحرّر بمواجهة الاحتلال، وعلى الأرجح لن تبقى بين الجنوب والشمال.