الشرح يطول بين نفاق الغرب الداعي في العلن إلى وقف النار فيما يغطّي ضمناً دعمه لإسرائيل في حربها لتصفية القضية الفلسطينية برمّتها وإقامة "الدولة اليهودية الخالصة"، وبين "أنفاق المقاومة" في لبنان... ولكن ما بات مؤكّداً أنّ بنيامين نتنياهو يدفع في اتجاه حرب ضد حزب الله وإيران، لأنّه أدرك منذ زمن طويل أن "مدن الصواريخ" تحت الأرض اللبنانية والإيرانية هي التي ستردّ على الاغتيالات الأخيرة، خصوصاً إذا تدرّجت الأوضاع إلى حرب شاملة.

في انتظار اجتماع الدوحة الجديد هذا الأسبوع تأسيساً على نتائج الأسبوع الفائت، فإنّ السؤال المطروح بإلحاح في هذه المرحلة هو: هل لبنان والمنطقة الآن أمام فرصة جدّية لحلّ يوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وعلى حدود لبنان الجنوبية؟ أم أنّ ما يحصل لا يعدو كونه مضيعة وقت أميركية لإمرار استحقاقات معيّنة، لأنّ القرار بات في يد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الساعي إلى خوض الحرب قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 تشرين الثاني المقبل، مدفوعاً بالرهان على عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وإحباط أيّ فرصة للرئيس جو بايدن لتحقيق إنجاز ما يستطيع الديموقراطيون تسييله لمصلحة مرشّحتهم كَمَلا هاريس لرئاسة الجمهورية.

ويقول البعض إنّه لا يمكن نتنياهو إلّا أن يتصلّب ويتشدّد ويرعد ويزبد ويهدّد عندما يسمع ترامب يقول قبل أيام إنّه "سيقدم لإسرائيل الدعم الذي تحتاج إليه للانتصار"، مضيفاً "لكنني أريدهم أن ينتصروا بسرعة". وفي الوقت نفسه، نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن ترامب قوله إنّ "مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها".

وفي المقابل، يسأل البعض: هل ما يقوم به الأميركيون من دور في مفاوضات الدوحة لإبرام صفقة بين إسرائيل وحركة "حماس" لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمعتقلين ليس محاولة إلهاء، وإنّما يدلّ فعلاً إلى أنّ مسعاهم جدّي لفرض وقف النار في غزّة وتالياً في جنوب لبنان؟

أحد مواكبي لقاءات الموفدين العرب والأجانب الذين توافدوا إلى لبنان الأسبوع الماضي يجيب عن هذا التساؤل بالقول إنّه "لا يمكن معرفة أيّ من الخيارين هو الصحيح". ويضيف "لا يمكن أحداً أن يعرف هل مارس الأميركيون هذا الأمر كجزء من تكتيك للالتفاف على الردّ المنتظر لمحور المقاومة على الاغتيالات الإسرائيلية الأخيرة، وتحديداً على اغتيال القائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر ورئيس حركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران.

وفي السياق نفسه، فقد راجت في مختلف الأوساط السياسية الداخلية والخارجية روايات كثيرة عن أهداف زيارات الموفدين، ومنها أنّهم جاؤوا ناقلين رسائل تفيد بأنّ نتنياهو يستعدّ لشنّ حرب واسعة النطاق على لبنان قد تؤدّي إلى إشعال المنطقة في ضوء الردّ على ردود "المحور" على اغتيال شكر وهنية، وأنّ على لبنان أن يضبط النفس، وأن يقنع حزب الله بعدم الردّ حالياً على اغتيال شكر حتّى لا تتخذ إسرائيل منه ذريعة لشنّ الحرب.

لكنّ أحد الذين اطلعوا من قرب على نتائج زيارات الموفدين جزم بالقول "إنّهم أرادوا من هذه الزيارات للبنان توجيه رسائل إلى نتنياهو يؤكّدون له فيها أنّنا لن نسمح لك باستباحة لبنان". لكن، حتّى إشعار آخر وثبوت العكس، فإنّ الانطباع العام السائد في أوساط محور المقاومة وبعض القوى السياسية والعواصم المحايدة هو أنّ الدول الغربية تمارس نفاقاً في الموقف، لأنّها، ضمناً، لا تريد وقف إطلاق النار في غزة ومنع إسرائيل من دفع المنطقة إلى حرب كبرى، بدليل أنّها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، دعمت إسرائيل، ولا تزال، في حربها على قطاع غزة وأمدّتها بكلّ السلاح والمال اللازم، ومنه ما حصلت عليه تل أبيب إثر زيارة نتنياهو الأخيرة لواشنطن (20 مليار دولار وقنابل ضخمة متطوّرة خارقة للتحصينات وتلك التي تزن 500 رطل وألف رطل وألفي رطل كالتي دكّت بها قطاع غزة طوال عشرة أشهر ولا تزال). ولكن مع فرق هذه المرّة هو أنّها ستستخدم هذه القنابل في الحرب التي تهدّد لبنان بها، وهي بالفعل استخدمت بعضها في الأسبوع الماضي عندما قصفت بلدة كفركلا وبلدات حدودية لبنانية أخرى والحقت بها دماراً رهيباً، يبدو أنّها أرادت أن توجه من خلاله رسالة إلى حزب الله مفادها أنّ هذا القصف هو نموذج لما يمكن أن يكون في الحرب التي تلوّح بشنّها بحجّة إعادة سكّانها النازحين إلى المستوطنات الشمالية.

يقول البعض إنّه لا يمكن نتنياهو إلّا أن يتصلّب ويتشدّد ويرعد ويزبد ويهدّد...

مدن الصواريخ

لكنّ حزب الله رد على هذه الرسالة الإسرائيلية بنشر فيديو منشأة "عماد ـ 4" محاولاً خرق ما سمّاه البعض "جدار النفاق" الغربي الذي يحمي إسرائيل ويغطّي حروبها، فأظهر الفيديو أنّ الأنفاق والتحصينات التي برزت في المنشأة لا يمكن القنابل الإسرائيلية المضادة لها أن تخترقها، إذ بدا واضحاً أنّها عميقة في باطن الأرض، تسير فيها بطاريات صواريخ متطوّرة ضخمة ولمسافات طويلة لم يستخدمها الحزب بعد. وأراد الحزب على ما يبدو من إظهار هذه المنشأة توجيه رسالة إلى إسرائيل والدول المهتمّة، مفادها أنّه مستعد للحرب التي تهدّده إسرائيل بها وليس لديه أيّ خوف في هذا المجال. أكثر من ذلك، أراد الحزب أن يقول لواشنطن وكلّ العواصم الغربية التي يزور موفدوها بيروت وتل أبيب والمنطقة تحت عنوان الدعوة إلى التهدئة وضبط النفس، إنّه إذا كان في الأمر نفاق غايته تغطية الحرب التي تستعد لها إسرائيل والقول لاحقاً إنّ إسرائيل "خرجت عن السيطرة"، فإنّ أنفاق المقاومة حاضرة ومنها نفق منشأة عماد ـ4 التي هي واحدة من مجموعة منشآت ربما تكون في باطن الأرض المحتلّة وليس في باطن أرض لبنان فحسب، وإنّ أيّ حرب ضد لبنان لن تكون نزهة فـ"روما من فوق هي غير روما من تحت، وأرض لبنان من فوق هي غيرها من تحت، والسر يبقى متى تم حفر الأنفاق وأقيمت هذه المنشآت الحربية فيها.

وكان اللافت في هذا المجال تغريدة السفارة الإيرانية في بيروت عبر منصة "إكس" تعقيباً على نشر فيديو "منشأة عماد ـ 4"، ونصها بالحرف:

"في اللغة الفارسية، نطلق على المنشآت الصاروخية الموجودة تحت الأرض وداخل الصخور والجبال "مدن الصواريخ". هذه المدن الصاروخية موجودة في جميع أنحاء جغرافيا إيران العزيزة، وهي تزرع الرعب في قلوب أعداء إيران. يمكننا، إذا لزم الأمر، مهاجمة العدو من أيّ نقطة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية".

ويبدو أنّ هذه التغريدة أريد منها التأكيد أنّ ايران باتت جاهزة للحرب، وأنّ لدى حليفها حزب الله مجموعات من "مدن الصواريخ" هذه التي سيستخدمها ضد إسرائيل في أيّ حرب، من أي مدينة من هذه المدن القابعة في باطن الأرض اللبنانية وفي أمكنة لا يعلم بها إلا مستخدموها.

ضغط أميركي

ولكن، على ذمّة مصدر مطّلع على الموقف الأميركي، فإنّ واشنطن "تضغط بقوّة" هذه الأيام لتحقيق وقف للنار في غزّة، لأنّ الرئيس الأميركي جو بايدن يريد أن يحقّق إنجازاً قبل الانتخابات الأميركية بحيث يمكن استثماره لمصلحة المرشحة الديموقراطية نائبته كَمَلا هاريس، وذلك على قاعدة أن يكون الحلّ لمصلحة إسرائيل لكسب اصوات الناخبين اليهود. ويبدو أنّ الدعم العسكري الجديد الذي قدّمته إدارة بايدن إلى نتنياهو إثر زيارته الأخيرة لواشنطن يندرج في هذا الإطار، فضلاً عن أنّ بين الأسرى الموجودين لدى حركة "حماس" 26 أميركياً يحملون الجنسية الإسرائيلية يريد بايدن إطلاقهم كي يضيفهم إلى رصيد هاريس الانتخابي.

ويكشف المصدر أن اجتماع الدوحة الأخير بناءً على الدعوة الثلاثية الأميركية المصرية القطرية، كان مقرراً عقده في القاهرة، ولكنّه نقل إلى الدوحة في اللحظة الأخيرة لرغبة واشنطن في أن تمارس القيادة القطرية ضغوطاً مباشرة على قيادة حركة "حماس"المقيمة عندها، وإقناعها بالسير في "المبادرة الثلاثية" الأميركية المنشأ والمتعلقة بوقف النار وإطلاق الأسرى والمعتقلين. وذكر المصدر نفسه أنّ قطر وإيران تؤيّدان بقوة وصول هاريس إلى البيت الأبيض متفوّقة على ترامب الذي كانت التجربة معه أيام رئاسته غير مشجعة، خصوصاً بالنسبة إلى إيران حيث إنّه أخرج بلاده من الاتفاق النووي الذي كانت طهران وقعته مع مجموعة الخمسة ‫+1 أيام رئاسة باراك أوباما، إذ هندّسه بايدن نفسه الذي كان يومذاك يشغل منصب نائب الرئيس الأميركي. وأكثر من ذلك، فإنّ ترامب دبّر عملية اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في بغداد في 3 كانون الثاني 2020، أي قبل عام تقريباً من خروجه من البيت الأبيض في 20 كانون الثاني 2021.

وفي رأي هذا المصدر، فإنّ الدوحة وطهران "ستمارسان ضغوطاً كبيرة على حماس لإقناعها بالسير في المقترح الأميركي الجديد لوقف النار وإطلاق الأسرى والمعتقلين، والذي سيكون موضع البحث في جولة المفاوضات المقررة هذا الأسبوع في الدوحة". ويشير المصدر إلى أنّ الجانب القطري يبدو محرجاً في هذه المرحلة وغير مرتاح للموقف الأميركي، لأنّه يتّهمه بالوقوف خلف تصلّب حركة "حماس" في الموقف، وكذلك بالوقوف خلف حراك الطلّاب في الجامعات الأميركية بدءاً بجامعة كولومبيا تأييداً للقضية الفلسطينية في مواجهة إسرائيل، الأمر الذي لم تشهده الولايات المتحدة الأميركية من قبل. وقيل إنّ استقالة رئيسة جامعة كولومبيا أخيراً كان من مضاعفات هذه القضية التي تصدّى لها اللوبي الصهيوني بقوّة.