في 6 تشرين الأول 1973 أمطرت فوهات 14 ألف مدفع دفعة واحدة ولساعات متواصلة خط بارليف الحصين على قناة السويس. ثم زحف الجيش المصري واجتاحه في ما سمّي حبّ العبور. فهل يتكرّر المشهد في قابل الأيام من خلال الردّ المنتظر لـ"محور المقاومة" على الاغتيالات التي نفّذتها إسرائيل في الضاحية الجنوبية لبيروت وطهران والتفجيرات في بغداد وقصف الحديدة؟

قبل أن يعود رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من واشنطن على وقع حادثة مجدل شمس لتحضير ردّ عليها بعد اتهام حزب الله بها على رغم نفي علاقته، ساد انطباع أنّ هذا الرد سيكون توسعة الحرب التي طالما هدّد بها منذ "طوفان الأقصى" على أن يتمّ هذا الرد قبل 5 تشرين الثاني المقبل، موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية إذ لا يستطيع بعدها أن يشنّها، لأنّه سواء فاز فيها دونالد ترامب أو كامالا هاريس، يرفض أيّ منهما تلقّف كرة نار في مطلع عهده في البيت الأبيض. ولذلك بدأ نتنياهو استعجال الخطى في اتجاه هذه الحرب ممهّداً لها بمجموعة اغتيالات سياسية وعسكرية رفيعة المستوى، تؤدّي شيئاً فشيئاً إلى التدحرج في اتجاهها في ضوء الردود المنتظرة على هذه الاغتيالات، والتي انضم إليها الردّ الحوثي المرتقب على قصف مدينة الحديدة الذي نفّذه نتنياهو قبيل سفره إلى واشنطن.

ويقول سياسيون متابعون إنّه لم يعد هناك من مجال للشك أو التحليل، فقد اغتالت إسرائيل رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في قلب طهران والقائد العسكري لحزب الله فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية لبيروت، لتوجه من خلالهما رسائل بالغة الخطورة إلى إيران وقيادتي حزب الله وحركة حماس، مفادها أنّها جاهزة للحرب ومستعدّة لخوضها مهما كانت العواقب. وفي المقابل تلقّت طهران وقيادتا "الحزب" و"حماس" هذه الرسائل بالاستعداد لقبول التحدّي وخوض الحرب مهما كانت التبعات والنتائج، وهذا يعني أنّ الوضع لن يكون محصوراً بردود على الاغتيالين وما سبقهما من هجوم على الحُديدة وعلى "الحشد الشعبي" في العراق، وإنّما سيكون مفتوحاً على حرب كبرى لم يعد هناك من مفر منها. بنيامين نتنياهو الطامح إلى إطلاق "إسرائيل جديدة" على أنقاض إسرائيل الحالية المتهالكة التي تآكلت قوتها الردعية، لم يعد في إمكانها الاستمرار وقد

أصابتها "لعنة العقد الثامن"، ليكون الملك المؤسس لها الذي يسلم العرش إلى آخر بعده، بعد أن يستقر له الملك ويتنعّم به ما دام هو على قيد الحياة.

أمّا "محور المقاومة" فإنّ حساباته مغايرة للحرب التي يستعد لها هذه المرة، إذ يريد الإجهاز على إسرائيل التي بدأت تتهاوى في نظره منذ عام 2006، وجاءت عملية "طوفان الأقصى" لتعجّل أكثر في هذا التهاوي معزّزاً بـ"لعنة العقد الثامن" التي تلاحق اليهود.

ولذلك، في ضوء الرد أو الردود المنتظرة على اغتيال هنية وشكر وما بينهما، إذا ما أضيف إليها ردّ حركة أنصارالله الحوثية و"المقاومة العراقية" ستكون المنطقة قريباً أمام حرب مفتوحة تقرر نتائجها مصير المنطقة ووجهها. والملاحظ أنّ المساعي والمفاوضات الهادفة إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة وإطلاق الأسرى الإسرائيليين والمعتقلين الفلسطينيين قد تعثّرت، بل ازدادت تعثّراً بعد اغتيال هنية الذي كان مفاوض إسرائيل عبر ممثلين للولايات المتحدة الأميركية وقطر ومصر، بحيث أنّ تل أبيب ارتكبت حماقة كبيرة وهي، في الحقيقة، ليست بحماقة، لأنّ قتله دلّ في وضوح إلى أنّ إسرائيل لا تريد اتفاقاً أو صفقة، وإنّما تريد الاستمرار في الحرب لتصفية حماس وقطاع غزة برمّته، غير آبهة بمصير أسراها سواء ماتوا أو ما زالوا أحياء، وأنّها تتعامل بشأنهم وفق "قانون هنيبعل" الذي لا يقيم وزناً للأسرى والآسرين سواء كانوا أحياء أم أمواتاً. فلو كانت تل أبيب راغبة فعلاً في اتفاق مع "حماس" لما كانت قتلت مفاوضها هنية، فقتل المفاوض يعني أنّها لا تريد مفاوضات ولا إطلاق أسرى ولا وقف إطلاق نار ولا اتفاق سياسياً على مستقبل قطاع غزة والقضية الفلسطينية برمّتها.

وفي ظلّ هذا الواقع، لا يبدو أنّ الجانب الأميركي قادر على تغيير مسار الأوضاع، فهو يدعو نتنياهو منذ زيارته البيت الأبيض الأخيرة للتوصّل، بالمفاوضات مع حماس، إلى اتفاق على إطلاق الأسرى ووقف إطلاق النار، لكنّ الأخير عاد من واشنطن لينفذ عمليات اغتيال خطيرة غير آبه بأيّ ضغوط أو مواقف أميركية مغايرة، حتى أنّ البيت الأبيض أكّد أنّ نتنياهو لم يُحطه علماً مسبقاً بالاغتيالات التي نفّذها، وأنّ مسؤولين أميركيين اتهموه بأنّه أبقى بايدن "في الظلام". إلّا أنّ مواظبة واشنطن على تأكيد المواقف الداعمة لـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، والتي تؤكّد "التزام الولايات المتحدة حماية أمن إسرائيل في مواجهة أيّ تهديدات إيرانية"، تجعل الخلاف بين بايدن ونتنياهو غير ذي موضوع.

طرفان يريدان الحرب

بعض المطّلعين على الموقف الأميركي يقولون إنّ الحرب واقعة لا محالة، وإنّ هناك طرفين يريدانها بقوّة، وهما:

ـ الأول، نتنياهو الذي يريد توريط الولايات المتحدة الأميركية في الحرب لتوجيه ضربة عسكرية كبرى (هي حلمه الدائم) لإيران وحلفائها، وعلى رأسهم حزب الله وكلّ القوى الحليفة لها أينما كان، لأنّهم يشكّلون الخطر الذي يهدّد إسرائيل، التي يعتبر أنّها تخوض "معركة وجودية"، كما يقول، منذ "طوفان الاقصى".

ـ الثاني، هو مسؤول حركة "حماس" في قطاع غزّة يحيى السنوار، الذي يريد إشراك إيران وحزب الله في حرب شاملة لأنّه يعتبر أنّهما لم يسانداه في عملية "طوفان الأقصى" بالشكل المطلوب، إذ كان ينتظر منهما، وانطلاقاً من "وحدة الساحات"، فتح النار على كلّ الساحات والجبهات وخوض حرب شاملة وصولاً إلى تحرير فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر.

ويستدلّ هؤلاء المطّلعون على ذلك بموقف السنوار هذا من خلال عدم تعليقه المباشر أو من خلال أبو عبيدة على اغتيال هنية في طهران.

وفيما بدا أنّ اغتيال هنية وشكر دفع حركة "أنصار الله" الحوثية إلى استئخار ردّها على القصف الإسرائيلي لمرفأ الحديدة، فإنّ المرجّح، حسب المعلومات، أنّ هذا الردّ دُمج في إطار الردود التي يستعدّ لها محور المقاومة بأكمله، إذ يعتمد أسلوب "الغموض البنّاء" في عدم الكشف عن طبيعة هذه الردود لكي لا تتمكن إسرائيل من استغلال أيّ ثغرة والنفاذ منها لإفقاد المحور عامل المباغتة، أو القيام بأيّ عمل استباقي لتعطيل مفعول أيّ رد.

ردّ محور المقاومة قد يكون مجموعة ردود تتدحرج تباعاً على نحو يفقد إسرائيل القدرة على التصدّي لأيّ ردّ بمفرده أو ردّ على كلّ الجبهات من لبنان إلى سوريا والعراق وإيران وصولاً إلى اليمن وقطاع غزة...

إمطار إسرائيل قصفاً

والواقع، حسب بعض الأوساط المتابعة، فإنّ ردّ محور المقاومة قد يكون مجموعة ردود تتدحرج تباعاً على نحو يفقد إسرائيل القدرة على التصدّي لأيّ ردّ بمفرده أو ردّ على كلّ الجبهات من لبنان إلى سوريا والعراق وإيران وصولاً إلى اليمن وقطاع غزة، بحيث يتم إمطار إسرائيل بوابل غزير من الصواريخ البالستية المتنوعة والمتطورة الذكية والفرط صوتية وغيرها من الأنواع، مرفقة بأسراب متلاحقة تضمّ المئات من الطائرات المسيّرة بما يفوق بكثير الحجم الذي أُطلق ليلة 14 نيسان الماضي، عند الرد على قصف القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع الشهر نفسه.

ولكنّ متابعين يتوقّعون أن يكون الردّ موحّداً من حيث المبدأ وعلى كلّ الجبهات، بحيث يحدّد لكلّ جبهة الدور والحجم والأهداف المنوي قصفها، كي يكون فاعلاً ويحقّق الهدف المرجو منه، وهو شلّ إسرائيل وإرباكها وإفقادها قدرة الردّ على كلّ الجبهات أو القدرة على الاستفراد بأيّ جبهة واختراقها. ويتوقّع هؤلاء المتابعون أن يكون الرد عبر الجبهتين السورية واللبنانية هو "حجر الرحى" في ردّ محور المقاومة برمّته، كونهما الأقرب جغرافياً من الأراضي الفلسطينية المحتلّة، بحيث تستطيع المقاومة تسديد ضربات قوية وموجعة وتبلغ الأهداف الحيوية والإستراتيجية الإسرائيلية، انطلاقاً مما هو متوافر من إمكانات وإحداثيات تمّت مراكمتها منذ سنين طويلة من العمل المقاوم حتّى الآن.

وفي هذا السياق، كان اللافت ما كتبته صحيفة "معاريف" من "أنّ إسرائيل تعيش أعقد اللحظات منذ وجودها، فإمّا قهر المحور الإيراني أو الأفول كقوة إقليمية، فالعرب المعتدلون قلقون من قدرتنا على مواجهة محور التطرّف". وعن مصدر ديبلوماسي غربي قوله "إنّ إسرائيل تدفن نفسها في غزّة، وإنّ استمرار الحرب في قطاع غزة ستكون له عواقب لا تقدّرها إسرائيل في شكل كامل، فلا تحتسب التأثيرات على مكانتها ووضع مواطنيها".

في أيّ حال، فإنّ كمّاً هائلاً من التهديدات تلقّاها لبنان ولا يزال منذ اغتيال هنية وشكر، والغاية من هذه التهديدات ليس منع الردود على هذين الاغتيالين كما يعتقد البعض، وإنّما لأنّ إسرائيل ما كانت لترتكبهما لو لم تكن على استعداد لتلقّي الردود عليهما أيّا كانت، سواء جاءت محدودة أو حرباً مفتوحة، فما تهدف إليه منهما وممّا سبقهما وما يمكن أن يلحق بهما هو استدراج الآخرين إلى حرب، حتّى ولو كانت مفتوحة، وإنّ ما يصدر في الإعلام الإسرائيلي وعلى لسان مسؤولين عسكريين في الخدمة أو احتياطيين أو متقاعدين لا يعدو كونه ذرّاً للرماد في العيون، من مثل الادّعاء بحاجة إسرائيل إلى ذخائر حتّى تستطيع شنّ الحرب، إذ لا يمكن أحداً أن يصدّق هذا الأمر لأنّ طيرانها الحربي والمسيّر ومدفعيتها في الدبابات وعلى الأرض تواصل يومياً دكّ قطاع غزة وجنوب لبنان بمختلف أنواع القنابل، بما فيها ذات الخمسمئة رطل أو الألف رطل والألفي رطل، ربما يكون حصل لديها بعض النقص وتطلب أن تسدّه، لكن ذلك لا يعني أنّ ذخائرها نفدت، إذ لو كان الأمر كذلك لكان جيشها انهزم أو فرّ من الميدان، أو لكانت قبلت بوقف لإطلاق نار على الأقلّ لكي تعيد تذخير نفسها.