صحيح أنّ هناك مواجهة بين إسرائيل وحزب الله، لكن في مكان ما هناك مواجهة أكبر بينها وبين الإدارة الاميركية دلّ إليها اللقاء العاصف مساء الثلاثاء بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبين الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين العائد تواً من لبنان. فإذا كانت إسرائيل تهدّد بشنّ حرب "ساحقة ماحقة" على حزب الله ولبنان، فإنّ الإدارة الأميركية تهدّدها بأنّها لا تستطيع شنّ هذه الحرب، ما لم تفرج لها عن دفعة الأسلحة والذخيرة التي طلبتها منها وتحجر عليها منذ أشهر.

ويقول لصيقون بالموقف الأميركي أنّ وضع إدارة الرئيس جو بايدن السياسي والانتخابي جيّد لكنه يضعف، خصوصاً أنّ إسرائيل نظرت في الأيام الاخيرة إلى مهمّة موفده هوكستين على أنّه "مرساله" إلى حزب الله، وقد أودع ما تريده الإدارة الأميركية من "الحزب" لدى رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وهو أن تفاتح قيادة حزب الله حركة "حماس" في أمر قبولها مبادرة الرئيس الأميركي لوقف النار في غزّة. لكن بري وميقاتي لم يبديا حماسة في شأن هذا الأمر لأنّ الحزب في الأصل لا يمكنه أن يفاتح حليفته "حماس" بشيء من هذا النوع، في وقت أنّ قيادتها تفاوض الأميركيين مباشرة حيناً ومن خلال القاهرة وقطر أحياناً.

ولكن ثمّة من قال إنّه رغم كلّ الضجيج والتهديد والتهويل بحرب واسعة تحضّر لها إسرائيل ضد حزب الله ولبنان، فإنّ ما يدور في الكواليس يوحي بعكس ذلك، ذلك أنّ الواقع كما هو حتّى الآن لا يمكن إسرائيل شنّ هذه الحرب في الوقت الذي تحذرها الولايات المتحدة من شنّها، آخذة في الاعتبار الأضرار السياسية والانتخابية التي يمكن أن تلحقها بالرئيس الأميركي، أو بإسرائيل نفسها الغارقة في وحول غزة وفي ضوء ما تتعرّض له من استنزاف على جبهة لبنان الجنوبية.

الواقع كما هو حتّى الآن لا يمكن إسرائيل شنّ هذه الحرب في الوقت الذي تحذرها الولايات المتحدة من شنّها

حماس ومبادرة بايدن

وخلافاً لكلّ ما شاع وقيل لم يحمل هوكستين إلى لبنان تهديداً مباشراً بحرب أوشكت إسرائيل أن تشنّها، وإنّما جاء يعترف لبري وميقاتي بأنّه لا يمكن معالجة الوضع على حدود لبنان الجنوبية بتطبيق القرار 1701 وغيره إلّا إذا توقّف إطلاق النار في غزة أولاً. ولذلك نصح هوكستين بالعمل على التهدئة جنوباً قدر الإمكان متوقّعاً إتمام تسوية الوضع في غزة قريباً، ولكنّه أوحي إليهما بما معناه إذا كان في الإمكان "المونة" على حركة "حماس" لكي تقبل بمبادرة بايدن، مؤكّداً أنّ إسرائيل قبلت بها ولكنّ الشروع في تنفيذها ينتظر موافقة حماس عليها، فإذا وافقت تتوقّف النار فوراً في غزة، وكذلك على حدود لبنان حيث يصبح تنفيذ القرار 1701 سهل المنال.

ولم يكن في برنامج هوكستين العودة إلى إسرائيل في ختام محادثاته في لبنان، ولكنّ "الهدد المسيّر" وما أثاره من صدمة في إسرائيل دفعاه إلى العودة إلى تل أبيب للاجتماع مع نتنياهو الذي كان سيّئاً بإجماع الجانبين. وقد زاد نتنياهو في سوئه إذ صعّد خلافه العلني الشديد مع إدارة بايدن في شأن توفير الأسلحة، قائلاً إنّ "قطرة بالكاد" من المساعدات العسكرية الأميركية تشقّ طريقها إلى إسرائيل، فردّ عليه هوكستاين قائلاً، بحسب مسؤول أميركي لشبكة "سي أن أن"، أنّ تصريحاته بأنّ الولايات المتحدة "تحجب أسلحة وذخائر عن إسرائيل" كانت "غير مثمرة"، و"أهم من ذلك أنّها غير صحيحة تماماً".

ويقول مطّلعون على الموقف الأميركي إنّ مواقف نتنياهو دفعت مستشار الأمن القومي جيك سوليفان إلى إلغاء لقاء مع نظيره الإسرائيلي تساحي هنغبي قبل أن يعود ويلتقيه لاحقاً. كذلك أرجئ اجتماع للمجموعة الاستشارية الإستراتيجية الأميركيةـالإسرائيلية كان مقرّراً الخميس الفائت، إذ كانت إيران أحد بنود جدول الأعمال، ومن المرجّح أن يُعقد هذا الأسبوع. ويضيف هؤلاء أنّ امتناع سوليفان عن الاجتماع بمستشاري نتنياهو ليس بالأمر السهل لأنّ الرجل يعتبر حالياً "الحاكم الفعلي" في البيت الأبيض في ظلّ انهماك بايدن بحملته الانتخابية لمواجهة منافسه دونالد ترامب.

حظوظ بايدن ونتنياهو

على أنّ الهدف من إيفاد نتنياهو مسؤول الأمن القومي الإسرائيلي إلى واشنطن مع اثنين من مستشاريه الكبار هو تحسين العلاقات بينه وبين بايدن الذي يتّهمه بدعم منافسه ترامب ومناصرته بكلّ ما أوتي من قوّة في الانتخابات. ويحاول بايدن استمالة الناخبين اليهود الأميركيين وفي مكان ما لن يصل في خلافه مع نتنياهو إلى حدود القطيعة، خصوصاً أنّ هؤلاء اليهود يميلون إلى الجمهوريين ومرشحهم ترامب. ومع ذلك لا تزال حظوظ بايدن في الفوز بولاية ثانية كبيرة. وفي المقابل فإنّ حظوظ نتنياهو في البقاء في السلطة كبيرة أيضاً ولكنّه لا يحبّذ الذهاب إلى انتخابات مبكرة في هذه الظروف قد يكون مصيره فيها على المحك، فهو الآن لا يزال يحتفظ بتأييد 64 صوتاً في الكنيست من أصل 120. ومن هنا يبدي البعض مخاوف من احتمال إقدامه على شنّ حرب واسعة على لبنان للهروب من هذه الانتخابات إذا شعر أنّها ستقضي عليه، لأنّها باتت محتومة الحصول بمجرّد توقّف الحرب في غزة وأيّاً كانت نتائجها.

وثمة فريق يقول إنّ بايدن يضغط، بالتعاون مع "البنتاغون"، بكلّ الوسائل الديبلوماسية والسياسية والعسكرية لمنع نتنياهو من توسعة الحرب، وبالتالي إسقاط حكومته إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً، لأنّ ذلك يمكّنه من إفقاد منافسه ترامب قوّة كبيرة يمثلها نتنياهو، وهذا ما يرفع من حظوظه في الفوز بولاية رئاسية جديدة.

إلى ذلك، يرى المطّلعون على الموقف الأميركي أنّ نتنياهو استشعر الضغوط "البايدينية" عليه، فأوعز إلى وزير خارجيته يسرائيل كاتس، بالتصعيد ضدّ حزب الله، ردًا على فيديو "الهدهد المسير" ذي الدقائق التسع الذي أظهر المواقع العسكرية والصناعية الإستراتيجية في مدينة حيفا والمناطق المحيطة بها. فقال: "نحن نقترب جدًا من لحظة اتخاذ القرار بتغيير قواعد اللعبة ضد حزب الله. وفي حرب شاملة، سيتم تدمير حزب الله، وسيتعرّض لبنان لهزيمة نكراء، ولكن من خلال دولة قوية وموحدة، وبكامل قوة جيش الدفاع الإسرائيلي. وسنعيد الأمن إلى سكان الشمال".

أمّا وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن فسارع على طريقته إلى استيعاب غضب نتنياهو، فالتقى مستشار الأمن القومي الإسرائيلي وقال: "إنّ دعمنا لإسرائيل لا غبار عليه". فيما قال بعض السياسيين الذين واكبوا زيارة هوكستين إنّ الرسائل غير المباشرة التي حملها إلى حزب الله تدعوه إلى عدم التصعيد "لأنّه إذا صعّد لن يكون في قدرة الولايات المتحدة أن تصدّ إسرائيل عن الحرب". وفي المقابل قال هوكستين للإسرائيليين "لن ندعمكم، ولكن في مكان ما لا يمكننا أن نعطيكم القنابل الكبيرة التي تطلبون لاستخدامها في حرب ضد لبنان". ويضيف هؤلاء أنّهم لا يلاحظون وجود أيّ دور أو موقف للصين في كلّ ما يجري، فيما يبدو أنّ الهدف الإيراني واضح، وهو إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، "لكن يبدو أنّها رجعت إليه، محبوبة كانت أو غير محبوبة، وبأفضل ممّا كانت عليه من قبل".