انهمكت الأوساط اللبنانية في الساعات الماضية بقرار النيابة العامّة في ميونيخ – ألمانيا، كفّ التعقّبات في حقّ الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة. فريق اعتبر أنّ القرار ما هو إلا فاتحة الهجوم المضاد، الذي سينسحب إسقاطاً للدعاوى في بقية البلدان، ومنها لبنان. فيما استقر رأي فريق آخر على أنّه لن يؤثّر في مجرى الأحداث.
في العاشر من حزيران الجاري، قرّرت النيابة العامّة المالية في ميونيخ إلغاء مذكّرة التوقيف الصادرة في حقّ الحاكم السابق لمصرف لبنان السابق رياض سلامة. وذلك عقب تقديم الأخير استئنافاً ضدّ مذكّرة التوقيف الصادرة في 19 أيار 2023 في ألمانيا.
على غرار مختلف القرارات القضائية ينقسم القرار الأخير شقّين:
الأوّل في الشكل، إذ لم تبقَ لتوقيف المدّعى عليه أيّ فائدة بعد ترك منصبه في سدّة الحاكمية في 31 تموز 2023. فالقرار بالتوقيف سبق نهاية ولاية الحاكم، وأتى احتياطياً خشية إتلاف الأدلّة ما دام هو في منصبه. وهذا ما عادت وأكّدته الناطقة باسم مكتب المدعي العام لوكالة الانباء الفرنسية.
الثاني في المضمون، وهو الأعمق بطبيعة الحال، ويفيد بأنّ كفّ التعقّبات لا يعني إسقاط التّهم الموجهة إلى الحاكم، ولا وقف المحاكمات ولا تحرير الممتلكات المحتجزة. فالتحقيق مستمرّ في ألمانيا، خصوصاً أنّ المحكمة أكّدت "الشكوك المرتبطة بالوقائع المتّهم بها سلامة". بالإضافة إلى ذلك، فإنّ مذكرة التوقيف الفرنسية لمّا تزل سارية المفعول في حقّ الحاكم السابق، وقرار كلّ من الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية على سلامة وأفراد عائلته، بسبب شبهات فساد، لم يُلغَ. وهو يتضمّن تجميد أصولهم في الدول الثلاث.
هل يمكن البناء على القرار؟
في حيثيات القرار، يشير الأستاذ المحاضر في قوانين الضرائب المحامي كريم ضاهر إلى أنّ "المعلومات التي استقيناها من القرار مبنية على بيان صحافي وزّعه سلامة في الوقت نفسه على وسائل الإعلام بعد تسعة أيام من صدوره. وأغلب الظنّ أنّه أتى للتعمية على مقابلة متلفزة أحرجت سلامة في الكثير من الجوانب. فكان مقتضباً ولا يحمل الكثير من التفاصيل ولا يبرّر الحجج التي اعتمد عليها القضاء الألماني لإبطال مذكرة التوقيف". كما أنّ البيان أوحى أنّ ما جرى يشكّل انتصاراً سينسحب على بقية القضايا المرفوعة في بلدان أخرى. "ومن دون الاطّلاع على نصّ القرار الأساسي الصادر عن مكتب المدعي العام، لا يمكن أن نعرف الكثير"، يضيف ضاهر. ومن الواضح، برأيه، أنّ القرار لا يمكن أن يُبنى عليه التماس بوقف المحاكمات في حق سلامة للعديد من الأسباب، أهمّها:
- صدور مذكرة التوقيف الألمانية "حماسياً"، عقب صدور مذكرة فرنسية مشابهة من قبل القاضية أود بوريسي، خصوصاً أنّ الملف المفتوح في ألمانيا زاخر بأدلة قاطعة، تمّ تحصيل جزء كبير منها من التحقيقات اللبنانية التي قادها القاضي جان طنوس. ويملك القضاء الألماني شكوكاً قويّة في أنّ التحويلات من حسابات في مصرف لبنان استعملت لشراء العقارات.
- مصادرة القضاء اللبناني جوازات سفر الحاكم من دون توقيف، تحبط الملاحقات الدولية، وتحولها إلى عديمة الفائدة، كونه لا يخرج من لبنان.
- استمرار سريان مفعول الملاحقات الدولية من قبل الأنتربول بناء على الإشارة الفرنسية.
- ارتفاع حظوظ توقيف الحاكم لو هو قرّر المثول أمام القضاء الفرنسي.
- ردّ المحكمة العليا في اللوكسمبورغ طلب الدفاع عن سلامة فكّ الحجز عن ممتلكاته. واعتبرت المحكمة أنّ الشبهات بحقّ الحاكم جدّية، وثمة خشية لديها من احتمال تبديد الأموال في حال رفع الحجوزات.
الفيصل في الدعاوى المقامة يبقى المحاكمات محلّياً ودولياً، وصدور القرارات.
"فينما" و "HSBC"
في الوقت الذي كان يعمّم قرار وقف الملاحقات الألمانية، كانت الهيئة التنظيمية المصرفية في سويسرا (FINMA) تتهم الذراع المصرفية الخاصة السويسرية لبنك "HSBC" بخرق قواعد مكافحة غسل الأموال، من خلال عدم إجراء فحوص كافية على الحسابات العالية المخاطر لشخصين مكشوفين سياسياً، (أغلب الظنون أن يكونا الحاكم رياض سلامة وشقيقه رجا). إذ لم يجرِ توضيح وتوثيق عدد من المعاملات العالية المخاطر بشكل كافٍ،. هذا ما يجعل من المستحيل إثبات طبيعتها المشروعة. وقد نُفّذت بين عامي 2002 و2015، وبلغت قيمتها الإجمالية أكثر من 300 مليون دولار. وحُوّلت الأموال التي مصدرها مؤسسة حكومية، من لبنان إلى سويسرا، وعادت بعد فترة قصيرة إلى حسابات أخرى في لبنان. وبربط بسيط للمعلومات يمكن التكهّن بأنّ هذه الأموال ما هي إلّا عمولات (فوري) الشركة المملوكة من شقيق الحاكم، والتي تعاطت تجارة سندات اليوروبوندز الصادرة عن الحكومة وتسويقها. وعليه، أمرت هيئة الرقابة المصرف بمراجعة جميع علاقاته التجارية العالية المخاطر وعلاقاته التجارية مع أشخاص مكشوفين سياسياً. وفرضت عليه أيضاً التحقّق من التصنيف الصحيح للمخاطر التي يقدّمها العملاء الآخرون، إذ يرصد وكيل مراجعة الحسابات تنفيذ هذه التدابير، وتقديم تقرير إلى "فينما". كذلك صرحّ البنك بأنّه "يعتزم استئناف القرار"، وأضاف في بيان: "نعترف بالمسائل التي أثارتها (فينما)، وهي تاريخية. والبنك يأخذ التزاماته المتعلّقة بمكافحة غسل الأموال على محمل الجد".
في المقابل، تفيد أوساط متابعة بأنّ المبدأ الأول في القضاء هو "المتّهم بريء حتى تثبت إدانته"، وما لم تُثبت التهم على الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، فإنّ كلّ الشكوك تدور في حلقة التكهنات. وهناك فرق كبير جداً بين اتخاذ قرارات صعبة، ربّما لم تصبّ في مصلحة المودعين وبين عدم قانونيتها. فكلّ القرارات كانت تتخذ بإجماع المجالس المركزية، واطلاع مفوض الحكومة، واستتباعاً وزارة المال. ومن المستبعد أن يكون هناك اختلاسات للمبالغ التي يتمّ التحدّث عنها ومقدارها مئات الملايين، بل المليارات من الدولارات.
إذاً، فإنّ الفيصل في الدعاوى المقامة يبقى المحاكمات محلّياً ودولياً، وصدور القرارات. وهذا ليس ممكناً حصوله ما دام محامي الدفاع مخاصماً الدولة، وممتنعاً عن حضور الجلسات في الخارج. وسيبقى هذا الملف متداولاً في الإعلام والصالونات مع كلّ ما يحمله من ترددات سلبية على المودعين، ومعنوية على البلد.