خلافًا لتفاؤله وقوله إنّه "مفعم بالأمل" للتوصّل إلى اتفاق على وقف لإطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل وتنفيذ القرار الدولي 1701 في الجنوب اللبناني، فإنّ كلّ المعطيات السياسية والميدانية وعلى الرغم من الاقتراح الأميركي الذي تبلّغه لبنان من الموفد الرئاسي آموس هوكستين عبر السفير الأميركية ليزا جونسون، فإنّ الحرب لا يبدو أنّها ستتوقّف، لأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدأ طورًا جديدًا من المناورة للاستمرار في هذه الحرب، أقلّه إلى موعد تسلّم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب مقاليد الرئاسة في 20 كانون الثاني المقبل، علّه يتمكّن خلال هذه الفترة من تحقيق أهدافه سواء في غزة أو في لبنان، أو على مستوى المواجهة الدائرة بينه وبين إيران وبقية أطراف "محور المقاومة".
وفق ما هو معلن سيصل هوكستين غدًا إلى بيروت لينتقل منها إلى تل أبيب ناقلًا الرد اللبناني على المشروع الأميركي لوقف إطلاق النار وتنفيذ القرار الدولي 1701 في الجنوب اللبناني ووقف الحرب، وقد أعدّ لبنان هذا الرد الذي يتمسّك بتنفيذ هذا القرار بكلّ مندرجاته، ويعترض على اللجنة الدولية المقترحة لمراقبة التنفيذ وضمانه إذ، حسب المعلومات، لا يمانع مشاركة واشنطن وباريس وربّما دولة عربية معهما، ولكنّه يرفض بشدّة مشاركة بريطانيا وألمانيا، وإعطاء إسرائيل أيّ حقّ في التدخّل العسكري بما يخرق السيادة اللبنانية عند أي ردّ، ولكنّه لا يمانع العودة إلى قواعد الاشتباك التي كانت قائمة قبل الحرب إذا كانت إسرائيل ستستمر في خرق القرار، بحيث يكون للبنان والمقاومة الردّ على أيّ خرق إسرائيلي.
ولكن حتّى الآن يشكّك لبنان في النيّات الإسرائيلية في ضوء استمرار نتنياهو في مناوراته مشفوعة بتصعيد عسكري بطريقة أكثر دموية وتدميرية ضد لبنان، يبدو أنّ المراد منه الضغط عليه للقبول بالشروط الإسرائيلية قبيل وصول هوكستين، ولكنّ المقاومة تردّ على التصعيد بتصعيد أكبر يشمل تل أبيب وضواحيها وحيفا وضواحيها، وكذلك مجمل المواقع والقواعد العسكرية والمستوطنات الشمالية التي تقول إسرائيل إنّها تشنّ الحرب على حزب الله لإعادة سكّانها النازحين إليها.
غير أنّ مصدرًا مطّلعًا على الموقف الأميركي يقول لـ "صفا نيوز" إنّ نتنياهو قد لا يستقبل هوكستين إن زار تل أبيب الآن، لأنّه بعد فوز حليفه ترامب فتح على ما يبدو حسابًا مع إدارة بايدن، خصوصاً أنّ نائبة الرئيس كَمَلا هاريس التي خسرت في الانتخابات أمام ترامب قاطعت جلسة الكونغرس الأميركي يوم زاره خلال الصيف الماضي وتخللها "احتفال" أقامه له الأعضاء الجمهوريون الذين صفّقوا له وقوفًا لأكثر من 50 مرة تصفيقًا حادًا احتفاءً به.
ويضيف المصدر أنّ نتنياهو يعتبر أنّ اهدافه من الحرب على غزة كما على لبنان لم تتحقّق بعد، وها هو يعدّ العدّة الآن لشنّ حرب على إيران بدليل رسالته الأخيرة إلى الشعب الإيراني، والتي قال فيها: "إذا كان هناك شيء واحد يخشاه النظام الإيراني أكثر من إسرائيل، فهو "أنتم أيها الشعب الإيراني"، وأضاف: "إنّ الهجوم الصاروخي الذي تسبب في "أضرار هامشية لإسرائيل" كلّف دافعي الضرائب الإيرانيين 2.3 مليار دولار" هذا هو المبلغ الذي أهدروه من أموالكم الثمينة في هجمات غير مثمرة". ويشير المصدر في السياق نفسه إلى كلام وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد يسرائيل كاتس، ومنه "أنّ المنشآت النووية الإيرانية باتت مكشوفة لإسرائيل بعد هجومها الأخير على إيران"، وهذا ما يدلّ إلى أنّ إسرائيل عازمة على توجيه ضربة لهذه المنشآت، حتّى لو تسبّبت في حرب إقليمية، في الوقت الذي تستعدّ إيران للردّ على هذا الهجوم الإسرائيلي، متوعّدة بأنّه سيكون مزلزلًا ولن تتراجع عنه إلّا إذا أوقفت إسرائيل إطلاق النار في غزة ولبنان. علمًا أنّ المرشد الإيراني السيد علي خامنئي حدّد أهداف الردّ إذا حصل بأنّه سيكون "دفاعًا عن سيادة إيران وشعبها وعن جبهة المقاومة". وهو ما يدلّ إلى أنّ هذا الموقف يؤكّد جهوزية إيران للدخول مباشرة في الحرب هذه المرّة وعدم البقاء في إطار الردّ والردّ المضاد بينها وبين إسرائيل.
ويؤكّد المصدر أنّه حتّى ولو افتراضًا أقدم حزب الله على وقف النار من جانب واحد، فإنّ إسرائيل لن توقف إطلاق النار، لأنّ نتنياهو ماض في مشروعه الهادف إلى القضاء على محور المقاومة إذا استطاع، لأنّه يجد فيه عائقًا يمنع مشروعه لإقامة إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر، وهو بدأ عمليًا بتنفيذ هذا المشروع بالبدء ببناء بؤر استيطانية في المناطق التي يسيطر عليها في قطاع غزة، وفي الوقت الذي أعلن في تل أبيب بعد فوز ترامب أنّ أول طلب سيقدمه نتنياهو إلى الرئيس الأميركي الجديد بعد تسلّمه الرئاسة، هو الموافقة على ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، خصوصًا أنّ ترامب كان وعد الناخبين اليهود في خلال حملته الانتخابية بتوسيع مساحة إسرائيل التي يجدها صغيرة، بحيث تكون إسرائيل الكبرى في مرحلتها الأولى بضم الضفة والقطاع إليها، لينتقل لاحقًا إلى المرحلة الثانية وهي قضم أراض من لبنان وسوريا والأردن والسعودية، كان تحدّث عنها وزير المال الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش قبل أسابيع.
ترامب منح نتنياهو فرصة إضافية لاستكمال حربه وتحقيق أهدافه منها
ويلاحظ المصدر أنّ الحديث عن ضمّ الضفة الغربية إلى إسرائيل جاء كأنّه ردّ على الموقف الذي أعلنته القمّة العربية الإسلامية الأخيرة في الرياض، متمسكةً بقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية وفقًا لـ "حلّ الدولتين" والمبادرة العربية للسلام. وهذا ما يعني أنّ إسرائيل تعدّ العدة لملاقاة ترامب إلى "صفقة القرن" التي سيستأنف العمل على إنجازها فور تولّيه الرئاسة، وهذه الصفقة تمحو اسم فلسطين من الخريطة وتتحدث عن "تحسين الحياة الاجتماعية للفلسطينيين" من دون أن تحدّد أين سيكون هذا التحسين وفي أيّ زمان.
ولذلك تقول المصادر المواكبة للاتصالات إنّ الحرب ما زالت طويلة ومرشحة لمزيد من التصعيد، وهي بدأت على كلّ حال من خلال رفع إسرائيل من وتيرة عدوانها الجوي على الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع وصولاً إلى استهداف منازل محددة في بقية المحافظات، وذلك في ضوء فشل محاولاتها البرية المتكررة لاحتلال أراض لبنانية نتيجة تصدي المقاومة لها، في الوقت الذي صعّد حزب الله من قصفه الصاروخي والمسيّر مستهدفاً هذه المرة وزارة الدفاع وهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي وغرفة إدارة الحرب وذلك تأكيدًا منه أنّه ما زال يملك المبادرة في الميدان، وأنّ حديث إسرائيل عن تقويض قوّته العسكرية والصاروخية هو مجرد كلام يراد منه النيل من معنويات المقاومة وبيئتها، وبالتالي طمأنة المجتمع الاسرائيلي الذي بدأ يسأل عن الحرب ومآلاتها. في الوقت الذي بدأ بعض المسؤولين الإسرائيليين يقولون "إنّ استمرارها يضعف إسرائيل ويقوّي حزب الله ".
وتدعو هذه المصادر إلى عدم التعويل كثيرًا على نتائج لقاء بايدن ـ ترامب الأخير في شأن مهمة هوكستين، لأنّ ترامب منح نتنياهو فرصة إضافية لاستكمال حربه وتحقيق أهدافه منها حتى موعد تسلّمه الرئاسة في 20 كانون الثاني المقبل، وهذا ما يفّسر تعنّت إسرائيل ورفع سقف شروطها لوقف النار في لبنان بما يتجاوز ما هو منصوص عنه في القرار الدولي 1701، الذي يتمسك لبنان بكلّ مدرجاته بلا زيادة أو نقصان. وقد اعترف وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو الذي كانت له محادثات في تل أبيب أخيرًا بأنّ إسرائيل تريد الاحتفاظ بالقدرة على ضرب لبنان في أيّ لحظة ضمن شروط التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله، في الوقت الذي أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي إثر جولة على الحدود الشمالية "أننا لن نسمح بأيّ ترتيب في لبنان لا يضمن تحقيق أهداف الحرب، وقبل كلّ شيء حقّ إسرائيل في اخضاع الإرهاب ومنعه بنفسها".
غير أنّ المصادر المواكبة تؤكّد أنّ تل أبيب تعرف أنّه لا يمكن لبنان وحزب الله القبول بشروطها، ولكنها ستتخذ من الأمر ذريعة للاستمرار في الحرب وصولًا إلى هدفها الكبير، وهو الدفع في اتجاه حرب شاملة في المنطقة، تشارك الولايات المتحدة الأميركية فيها ويتخلّلها تسديد ضربة مدمّرة للمنشآت النووية والاستراتيجية الإيرانية، وبالتالي تكون في هذه الحال قد ضربت رأس محور المقاومة الذي يشكّل من وجهة نظرها خطرًا وجوديًا عليها. ويتسنّى لها في هذه الحال إقامة "إسرائيل الكبرى" بلا منازع على وقع استمرارها في التطبيع مع أكبر عدد من دول المنطقة، وهو تطبيع كان ترامب أوّل المشجعين عليه أيام ولايته السابقة، وسيستمر في هذا التشجيع في ولايته الجديدة.
في ضوء كلّ هذه المعطيات لم يعد مهمًا إن جاء هوكستين إلى تل أبيب أو بيروت أم لا، لأنّ مهمته فشلت أصلًا في ضوء زيارته الأخيرة لإسرائيل التي ذهب إليها ليعود بجواب منها على الموقف اللبناني، لكنّه لم يعد، ليظهر قبل أيام وبعد لقاء ترامب قائلاً في البيت الأبيض إنّ هناك اقتراحًا اميركيًا أعدّته واشنطن في ضوء محادثاتها مع الجانب الإسرائيلي، سواء عبر اتصالات بينها وبين نتنياهو أو من خلال وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي رون دريمر الذي زار واشنطن لهذه الغاية بعدما كانت له زيارة لموسكو أعقبتها زيارة وفد عسكري روسي لإسرائيل، وقيل إنّ تل ابيب عرضت على الجانب الروسي وقف مرور الأسلحة إلى حزب الله من الأراضي السورية في مقابل رفع عقوبات أميركية وغربية مفروضة على موسكو بسبب حربها على أوكرانيا.
في أيّ حال، فإنّ لبنان يتمسّك بتنفيذ القرار الدولي 1701 بكلّ مندرجاته بلا أيّ تعديل أو تبديل، وهو كان أبلغ هذا الموقف إلى هوكستين خلال زيارته الأخيرة لبيروت، وكذلك إلى السفيرة الأميركية التي نقلت اقتراح إدارتها الأخير الذي رفض لبنان أحد بنوده، وهو أن يكون هناك لجنة رقابة من الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإحدى الدول العربية على تنفيذ القرار 1701، واعتبر أنّ هذا الأمر يمسّ السيادة اللبنانية التي يحترمها القرار ولا يفتئت عليها في أي بند من بنوده التي يتمسّك بها لبنان منذ اللحظة الأولى، ولكنّ إسرائيل تخرقه منذ ذلك الحين مسجّلة أكثر من ثلاثة وثلاثين ألف خرق مسجلة لدى الأمم المتحدة، وهذه الخروق هي التي دفعت المقاومة إلى عدم الانسحاب عسكريًا من منطقة جنوب االليطاني، وهذا الأمر كان من الطبيعي أن يحصل لأنّه لا يمكن أن يطلب من لبنان في هذه الحال أن يكون قدّيساً في مواجهة خروق إسرائيل التي لم تلتزم القرار الدولي منذ لحظة صدوره، لأنّ لبنان يريد أن يدافع عن نفسه في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية.