عادت "بسطات" المفرقعات إلى شوارع المدن والقرى بألوانها النارية، وتسعيراتها "الصاروخية" بالعملة الأجنبية، قبل أيام طويلة من عيد الأضحى المبارك. ظاهرة كنّا قد افتقدناها خلال سنوات "القحط" الثلاث الماضية لكونها التوصيف الدقيق لـ "حرق المصاري"، وليس بأيّ عملة، بل بالدولار النّادر. فهل تعبّر عودة المفرقعات بوصفها ترفاً غير ضروري، وسلعة مستوردة، عن الواقع الاقتصادي الحقيقي والظروف المعيشية للعائلات؟ وهل صحيح هو المنطق الذي يفترض أنّ من يُنفق على المفرقعات لن يَبخل على شراء اللباس والمأكولات وإكرام الأولاد بـ "العيدية"، وهي من الطقوس الأخرى المرافقة لعيد الأضحى؟ وهل يسيّل جمود الأسواق تالياً، وتنشط الحركة التجارية وتتحقّق مصلحة الجميع؟
"البيوت أسرار يا ابني"، قالها رجل سبعوني يجلس خلف بسطة مفرقعات في سوق بقعاتا التجاري في منطقة الشوف. "لعلّها من المرات القليلة التي أشهد فيها هذا التفاوت الطبقي في المجتمع رغم امتهاني الموسميّ لهذه التجارة طوال عقود. فهناك من يشتري بمئات الدولارات المفرقعات الكبيرة التي يخيّل لك عند انفجارها بالسماء أنّها قنابل مضيئة. وهناك أهل يجمّعون ما في حوزتهم من ليرات لشراء ما "يكسر عين" أبنائهم من مفرقعات صغيرة، كـ "الفتيش، والتشتاش، وحصوص التوم، ومدافع الديك الشهيرة، وطلقات النار الصغيرة". ونحن كباعة بالمفرّق، "نعتمد على الصنف الأول من الزبائن، الذين، وإن قلّوا، ما زالوا يتمتّعون بقدرة شرائية كبيرة". يساعد على ذلك ترافق عيد الأضحي هذا العام مع بدء قدوم المغتربين من مختلف الدول العربية والأجنبية، "وهم ينفقون في هذه المناسبات، وعلى مثل هذه السلع من دون حساب. فهي باهظة الثمن في دولهم، ويحتاج المرء لدى شرائها واستعمالها إلى معاملات معقّدة ومكلفة جداً. فيستعيضون عنها بالقدوم إلى لبنان و"توليع الأجواء"، لمرة واحدة على الأقلّ في العام"، على حدّ وصفه.
الأسواق التجارية "تنكمش"!
في الأسواق التجارية التي تنتشر فيها متاجر المأكولات والحلويات والألبسة والألعاب، الوضع سيئ، ويزداد سوءاً كلّما اتجهنا جنوباً، حيث تندلع الاشتباكات المسلّحة مع العدو الإسرائيلي. فالأسوق التجارية الأشهر والأعرق على مدخل لبنان الجنوبي في مدينة صيدا "تفرغ من روادها قبل التاسعة مساء"، يقول رئيس جمعية تجار صيدا وضواحيها علي الشريف، مضيفاً "على الرّغم من الاستعداد للعيد بكلّ ما أوتينا من عزيمة. إذ أمّنا الإنارة للشوارع حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، والمتاجر أغنت رفوفها بكلّ جديد لموسم الصيف، وزادت عروضها ورفعت من نسبة الحسومات على المشتريات بشكل كبيرة، وتفتح أبوابها إلى ساعات متأخرة من الليل، تراجعت نسبة المبيعات بشكل لافت عماّ كانت عليه في العام الماضي". مع العلم أنّ المنطق يفترض أنّ القوة الشرائية للمستهلكين زادت مع ازدياد الرواتب في القطاعين العام والخاص. "إلّا أنّ الخشية من توسّع الحرب، وتراجع أعداد الزائرين من خارج المنطقة، وارتفاع التكاليف المعيشية. خصوصا ًفي ما يتعلّق بالرسوم والفواتير على خدمات البلديات والكهرباء والمياه وتسجيل السيارات والتأمين التي أضافتها موازنة 2024، هذه العوامل مجتمعة أدت، برأي الشريف، إلى "تراجع قدرة المواطنين الشرائية، والحدّ من الإنفاق على كلّ ما يعتبر كمالياً وغير ضروري".
اللحوم على حالها
على صعيد اللحوم المبرّدة والمثلّجة والحيّة، "شهدت زيادة بالمبيعات بنسبة وصلت إلى حدود 20 في المئة مقارنةً بالنصف الأول من العام الماضي"، بحسب نقيب تجار اللحوم في لبنان جوزيف الهبر. "فيما لم تشهد الأسعار أيّ تغير. فحافظ سعر كيلو لحم الضأن على متوسط 1.6 مليون ليرة وسعر لحم العجل بين 850 ألف ليرة والمليون. ويبلغ سعر رأس الخروف (العواس) حوالى 5 دولارات للكيلو "الواقف"، أي مع عظمه. ويستورد لبنان ما بين 12 و15 ألف طن من اللحوم المبرّدة والمثلّجة وقرابة 15 ألف طن من المواشي.
الحلويات تتحسن، ولكن!
تأثير العيد على قطاع الحلويات لم يظهر بعد، كون المعيّدين ينتظرون يوم العيد وما يليه من أيام لشراء الحلويات، من معمول وصفوف وبقلاوة وشوكولا وغيرها من الأصناف. ومن الواضح أنّ "حركة المبيعات منذ بداية هذا العام شهدت تحسّناً كبيراً مقارنةً بالعام الماضي، من المتوقّع أن تنسحب على مبيعات العيد في الأيام المقبلة"، بحسب صاحب محل حلويات. وذلك كون البلد "يعجّ" بالمغتربين من جهة، ويشهد تحسّن قدرة المواطنين الشرائية واعتيادهم الصرف بالدولار من جهة ثانية. ففي العام الماضي، كان الدولار شبه نادر في الأسواق، ومعظم المؤسسات تسدّد الرواتب بالليرة، وهذا تبدّل بشكل جذري مع مطلع هذا العام وبدأنا نلحظ تأثيره الإيجابي على ازدياد المبيعات كماً ونوعاً".
"العيدية" تخسر 70٪ من قيمتها
الانخفاض الكبير في القدرتين الشرائية والاستهلاكية ستترجمه "العيدية"، وهي مبلغ من المال يذهب إلى الأولاد هدية من الأهل. فهذه "العيدية" التي لم تقلّ عن 5000 ليرة، تعادل 3.3 دولارات في سنوات ما قبل الانهيار، تراجعت في العام 2023 إلى ما بين 50 و100 ألف ليرة لا تعادل أكثر من دولار واحد. وبحسب المتوقّع، فإنّ الأطفال الذين ينتظرون "العيدية" على أحرّ من الجمر، سيخيب ظنّهم لكون المئة، أو حتى 200 ألف ليرة، لا تشتري شيئاً يذكر.
بحسب الظاهر من الآراء المُستطلعة في مختلف القطاعات، فإنّ الانكماش يشمل كلّ ما ليس له علاقة بالمأكل والمشرب. أمّا زيادة الطلب على المفرقعات بوصفها سلعة كمالية غير ضرورية, فتلاقي تبريراً لها في نظرية "تأثير أحمر الشفاه" (lipstick Effect)، إذ يميل المستهلكون إلى شراء سلع كمالية منخفضة الثمن في حالة الركود الاقتصادي أو الأزمات، بدلاً من السلع الباهظة الثمن، كالسيارات والمجوهرات. ولعلّ هذا ما يفسر كثافة الطلب على المفرقعات من الجميع. لكن، كلّ بحسب قدرته. وهذا ليس بدليل صحّة في مجال الاقتصاد، ومن المؤكد أنّه لا يصنع النموّ المرتجى.