أدّى تخفيض سعر صرف العملة الوطنية من 1500 ليرة إلى 89500 ليرة مقابل الدولار، وما سبقه من تلاعب صعوداً ونزولاً، إلى مشاكل لا تعدّ ولا تحصى في موازنات الشركات. الأعراض التي ظهرت باكراً من العام 2019، بانتفاخ الموازنات بأرباح وهمية غير محقّقة، لم تسترعِ انتباه المشرّعين، بل تركت لعلاجات "المالية" المسكِّنة من خلال التعاميم المرحلية المبهمة للإعفاء من ضريبة الدخل. ولم تظهر أولى بوادر الجدّية لمعالجة هذا الخلل المتفاقم، إلا في المادتين 56 و57 في مشروع قانون موازنة 2024. وبسبب تأجيل البحث بهاتين المادّتين في الجلسة التشريعية لإقرار الموازنة، ونتيجة لحالة الفوضى التي سادت في الختام، سقطت المادتان ولم يتم إقرارهما. واستمرت المشكلة...
لتبسيط المشكلة التي تواجه الشركات، يقول عضو نقابة خبراء المحاسبة المجازين نديم ضاهر إنّ "المعايير المحاسبية تفرض تسجيل القيود بقيمتها التاريخية". للمثال، فإنّ "شراء شركة ما، آلة بقيمة 10 آلاف دولار في العام 2021، تسجّل في جهة الموجودات (تنقسم الموازنة قسمين متقابلين: الموجودات والمطلوبات) في الموازنة بقيمة 15 مليون ليرة، وذلك على أساس سعر الصرف الرسمي الذي كان يعادل آنذاك 1500 ليرة. ومع تدهور سعر الصرف سريعاً أصبحت القيمة الاسمية لهذه الآلة تتدهور تدريجياَ حتى وصلت اليوم إلى نحو 170 دولاراً (أي لا تساوي شيئاً)، مع العلم أنّ قيمتها الحقيقية أكبر بكثير. والأمر نفسه ينسحب على كلّ بنود الموازنة من مخزون وذمم دائنة ومدينة.
الضريبة على الأرباح الوهمية
على مدى الأعوام الماضية، لم تعطِ المالية توجيهات واضحة لحلّ هذه الإشكالية، ولم تظهر القرارات الأولى إلّا في آخر العام 2021، حين صدر قرار ينصّ على تطبيق القيمة الفعلية، أي القيمة السوقية لسعر الصرف، في قيود المحاسبة. بيد أنّ كلّ القيود القديمة التي تعود إلى مرحلة ما قبل العام 2021، أي إلى سنوات 2019 و2020 لا تزال مسجلّة على سعر صرف 1500، "وهو ما يستوجب اليوم تعديل القانون"، من وجهة نظر ضاهر، خصوصاً أنّ الشركات ملزمة عند إقفال موازنة العام 2023 مع بدء السنة المالية الجديدة في العام 2024، تطبيق سعر الصرف الجديد 89500 ليرة، الذي أصبح سعراً ثابتاً. الأمر الذي ينتج منه فروقات صرف كبيرة. فالذمّة بقيمة 1000 دولار المحتسبة 15000 مليون ليرة على أساس سعر صرف 15000 ألف ليرة، الذي أعتُمد منذ شباط 2023، أصبحت تساوي اليوم 90 مليون ليرة. والفرق المقدّر بـ75 مليوناً يعتبر ربحاً محقّقاً في الشركات. ويتعيّن دفع ضريبة دخل عليه. مع العلم أنّه ربح وهمي غير محقّق إنّما نتج من تغيير سعر الصرف.
مخالفة الأصول المحاسبية
بالعودة إلى تعميم وزارة المال، يجوز عدم دفع الضريبة إن كان الربح غير محقّق، وعليه لا يحتسب الرقم الناتج من ضمن الأرباح إنّما يترك في الموازنة، "وهذا يعتبر مخالفاً للمعايير الدولية"، بحسب ضاهر. "ويستوجب تعديل القانون للسماح للشركات بتسجيل هذه الفروقات في الرساميل الخاصة، وليس من ضمن "حساب النتيجة"، الذي يخضع للضريبة.
الإشكالية التشريعية
إزاء هذا الواقع المعقّد، والمشاكل الكثيرة التي يسبّبها، أعادت الحكومة إرسال المادتين المعنيتين اللتين لم تقرّا في موازنة 2024 بمشروع قانون إلى البرلمان، فطعن بها نواب الجمهورية القوية، على أساس أنّه لا يحقّ لحكومة تصريف أعمال إرسال مشاريع قوانين. وكيلا تبقَى الأمور معلّقة ومن دون حلّ، تقدّم نواب تكتل الجمهورية القوية باقتراح قانون لتعديل المادة 45 من المرسوم الاشتراعي المعني بضريبة الدخل.
اقتراح قانون معجل مكرر
تقدّم النواب غسان حاصباني ورازي الحاج وجورج عدوان وغادة أيوب باقتراح قانون معجّل مكرّر يرمي إلى تعديل المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 144 تاريخ 12/06/1959 وتعديلاته (قانون ضريبة الدخل)، والإجازة للمكلّفين بضريبة الدخل إجراء إعادة تقييم استثنائية للمخزون والأصول الثابتة وإلى اعتماد معالجة استثنائية لفروقات الصرف الإيجابية والسلبية الناتجة من الذمم المدينة والدائنة، ومن الحسابات المالية بالعملة الأجنبية، وطلب التكتل إلى دولة رئيس مجلس النواب إدراجه على جدول أعمال أول جلسة تشريعية سنداً إلى أحكام المادة 110 من النظام الداخلي لمجلس النواب واعتبار الأسباب الموجبة تبريرية لصفة العجلة.
على أنّ أهمّية هذا القانون تتمثّل في أن الشقّ الأوّل من الاقتراح يعدّل المادة 45 من قانون الضرائب، وهو الذي يسمح بإجراء إعادة تخمين كلّ 5 سنوات للأصول الثابتة. فأتى التعديل ليسمح بإجرائها كلّ عام، نتيجة التبدّلات السريعة في الأوضاع المالية والنقدية، واحتمال تغيّر سعر الصرف. وتخضع إعادة التقييم هذه لضريبة 15 في المئة، كضريبة تحسين. ويسمح القانون من الجهة الأخرى بتصحيح القيم في الموازنات وإعفائها من الضرائب الناتجة من الأرباح غير المحقّقة.
على غرار بقيّة الإصلاحات الجوهرية في المفاهيم والقوانين، أُجّل إصلاح الموازنات الناتج من التضخّم وتغيّر سعر الصرف نحو 5 سنوات، واستبدلت به التعاميم غير الواضحة التي تٌبقي لبنان بمؤسساته العامّة والخاصّة خارج ملعب المعايير الدولية والأصول المحاسبية.