فتح الكاتب سمير عطا الله شهيّتنا في مقال "ملح وبهار في البروفانس" لتناول السياحة الغذائية، كنوع من أنواع المقبّلات الأساسية لتنشيط السياحة في بقع مميزة على هذه المعمورة. فتذوق المأكولات التقليدية والمعاصرة في أجواء مفعمة بالثقافة والتاريخ، تحوّل إلى مصدر جذب للزوار، ونمط سياحي مستقلّ على غرار السياحة البيئية، والدينية، والعلاجية... وسواها من الأنماط. المقال الذي يستحضر مطاعم "بروفانس" المنطقة الجميلة الموغلة في التاريخ الواقعة في جنوب شرقي فرنسا حيث "مَا من مطعم من مطاعم البروفانس شيء عادي، إنّه جزء من الحياة الجميلة التي من أجلها أقيمت فرنسا ولقّبت بلد العيش"… دفعنا المقال إلى التساؤل عمّا ينقص زحلة، جزين، صيدا، طرابلس، عاليه، دير القمر وغيرها الكثير من مناطق بلاد الأرز أن تكون "بروفانس" لبنان!
إنّ "السياحة الغذائية" ليست "معمّاة" في لبنان، وهناك تجارب جديرة بالمتابعة تقدّمها أسواق المأكولات التقليدية ومصانع النبيذ، وبعض الوجهات والأسواق وبيوت الضيافة بشكل أساسي. إنّما هذه الظاهرة، على أهمّيتها، لم تستطع، حتّى الأمس القريب، أن تتحول إلى حالة مستقلة بذاتها، تشكّل وجهة للسياحة الخارجية كما "بروفانس – فرنسا". وتأتي "السياحة الغذائية" كجزء مكمّل لأنواع السياحة العامّة التي يتميز بها لبنان. فلا أحد مثلاً من السياح يقصد شمال لبنان، بقاعه أو جنوبه أو أيّ منطقة أخرى، من أجل التمتّع بتجربة الطعام الفريد، إنّما يمرّ بهذه التجربة، أحياناً كثيرة مرور الكرام، من ضمن الحزمة السياحية التي اختارها أو المقررة له من شركات السياحة والسفر. فيتوقّف وهو عائد من البقاع على سبيل المثال لا الحصر في زحلة أو تعنايل أو شتورة لعيش تجربة محدودة تتعلق بالطعام والمشروبات. أو يصادف السوق المخصّصة للمأكولات البيتية والقروية وهو يمر بشارع الحمرا. أو يضع جبيل على لائحة زيارته لساعات معدودة، ثم يُقفل عائدا إلى وجهته الأساسية.
خطوة نوعية باتجاه السياحة الغذائية
التجربة الأولى المحترفة في صناعة نمط "السياحة الغذائية" في لبنان مثّلها حديثاً مشروع "تعزيز السياحة الغذائية من أجل التماسك الاجتماعي والاقتصادي في البقاع". وقد نفّذت جمعية التجارة العادلة في لبنان هذه المبادرة الرائدة، بالتعاون مع "إكسبرتيز فرانس"، وبدعم من الوكالة الفرنسية للتنمية ومركز الأزمات والدعم. وهدف المشروع إلى دعم قطاع الإنتاج الغذائي المحلّي من خلال تنويع الأنشطة عبر دعم استدامته، وتعزيز قدرات الجهات العاملة فيه، وترويج السياحة الغذائية. فجرى تحسين قدرات 10 مؤسسات وتعاونيات إنتاج غذائي من خلال تقديم مجموعة من التدريبات، وتوفير المعدات الأساسية لتطوير منتجاتهم. وتم تحسين البيئة التمكينية من خلال دعم 170 فرداً، من الجهات الفاعلة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم ذات الصلة بالسياحة في زحلة، من خلال برامج تدريبية مختلفة. كما جرى تعزيز تراث الطهو عبر إنشاء 10 تجارب سياحية جديدة تعرض تقاليد الطهو الغنية في منطقة البقاع. وتساهم هذه المبادة في تعزيز المرونة الاجتماعية والاقتصادية في البقاع.
التجربة الأولى المحترفة في صناعة نمط "السياحة الغذائية" في لبنان مثّلها حديثاً مشروع "تعزيز السياحة الغذائية من أجل التماسك الاجتماعي والاقتصادي في البقاع".الفرصة كبيرة أمام لبنان
يقال أن الفرص تَخلق في الأزمات، "وهذه فرصة تاريخية أمام لبنان لتعزيز دوره كوجهة سياحية غذائية مميزة"، يقول رئيس جمعية التجارة العادلة سمير عبد الملك لـ"الصفا نيوز"، وهذا ما يسهم في تنشيط الدورة الاقتصادية المحلّية وتحقيق فوائد مستدامة للمجتمع. فالسياحة الغذائية في لبنان تجربة غنيّة ومتنوّعة بفضل التراث الثقافي العريق والمزيج الفريد من النكهات والتقاليد. "ويمكن الاستفادة من شهرة المطبخ اللبناني عالمياً للترويج في صفوف الزوار للاستمتاع بتذوق مجموعة واسعة من الأطباق التقليدية في مطاعم متنوعة من المطاعم الفاخرة إلى المطاعم الشعبية"، بحسب عبد الملك. "بالإضافة إلى أنّ الضيافة اللبنانية معروفة بدفئها وترحيبها، وهو ما يجعل تجربة الطعام أكثر تميّزاً وشخصية. ويمكن الاستمتاع بهذه التجارب في مختلف المدن اللبنانية حيث لكلّ منها نكهتها الخاصّة وتجاربها الغذائية المميزة".
قوة اقتصادية ضاغطة
من الناحية الاقتصادية المحض، يمكن السياحة الغذائية أن تكون "قوّة دافعة قوية لتنشيط الدورة الاقتصادية المحلّية في لبنان"، برأي عبد اللك. "وذلك من خلال تقديم تجربة شاملة تجمع تذوق الطعام والاستمتاع بالثقافة والتراث المحلي. ومن شأن السياحة الغذائية زيادة الإنفاق المحلّي من خلال الإنفاق في المطاعم والمقاهي، وهذا ما يزيد إيرادات هذه المؤسسات ويدعم الاقتصاد المحلي. بالإضافة إلى أنّ تنظيم أسواق ومهرجانات غذائية يعزّز الإنفاق على المنتجات المحلّية مثل الأطعمة، والحرف اليدوية، والهدايا التذكارية". ونتيجة لما تقدم، فإنّ قطاع الضيافة يؤدّي إلى استيلاد فرص عمل جديدة في الفنادق، والمطاعم، والمقاهي. كما أنّ زيادة الطلب على المنتجات الطازجة من المزارعين والمنتجين المحليين تعزز القطاع الزراعي وتوفر فرص عمل إضافية.
التحول الكبير ينتظر الهيكلية
ما ينقص السياحة الغذائية لتتحول إلى نمط سياحي قائم بذاته هو "وضع هيكلية واضحة، ودعمها من الجمعيات العالمية ذات الاختصاص لتوجيه الدعم التقني والمادي والمعنوي إلى كلّ ما له علاقة بالسياحة الغذائية"، يقول أندريه أبي عبد الله، وهو مساهم في تنظيم إحدى أسواق المأكولات التقليدية. "الأمر الذي لا يوفر المزيد من الأمان الغذائي والخدمة المحترفة وطريقة التقديم اللبقة فحسب، إنّما ينقل هذه السياحة إلى مستوى جديد ويضعها في مصاف المناطق المتخصصة في هذا المجال حول العالم". وبرأي أبي عبد الله فإنّ "مزايا لبنان في هذا المجال لا تعدّ ولا تحصى"، بدءاً بجمع الطاولة اللبنانية للأطعمة السورية والتركية والفلسطينية إضافة إلى اللبنانية، مروراً بتميّز لبنان بتنوّع أطباقه الباردة والساخنة والحلوة مثل الحمص اللبنة والتبولة واللحمة النية والفتة، والفوارغ والكراعين والمفروكة والصفيحة والحلويات على مختلف أصنافها، وصولاً إلى الابتكارات والإضافات إلى كلّ ما هو معروف بالمونة البيتية الحلوة والمالحة، وتطوير مأكولات الشوارع وفي مقدمتها المنقوشة والشاورما ذات الأصول التركية، والفلافل والكنافة . وبحسب عبد الله، فإنّ "هذه المزايا ساعدت اللبنانيين على إطلاق "حقوق امتياز خاصة – فرانشيز" تتعلّق بالطعام، وتوسعها عالمياً، الأمر الذي شكّل مصدراً لإدخال العملة الصعبة من جهة وجذب السياح من جهة أخرى للتعرف على هذا المطبخ الغني والمتنوّع. زدْ على كلّ ذلك بشاشة اللبناني وترحيبه بالسياح وهو ما لا نراه في الكثير من أكثر الوجهات شهرةً حول العالم".
يشبّه اللبنانيون عادة بـ "صندوق البطاطا – كلّهم رؤوس" وذلك للدلالة على تفرّدهم حتى ولو كانوا مجموعين في مكان واحد. ورغم بعض إيجابيات هذه الخاصية، فهي تحمل الكثير من السلبيات، وفي مقدمتها صعوبة العمل المشترك، والتوصل إلى صيغة تجمع المزايا التي سبق ذكرها تحت سقف واحد لتعظيم المنفعة الاقتصادية والمجتمعية.