قفزت أسعار الخضر وبعض السلع والمنتجات بين مساء "شعبان" الأخير، وصباح "رمضان" بنسبة كبيرة. التبدّلات في الأسعار التي يشهدها لبنان موسمياً ودورياً "تُلصق بضهر" القاعدة الأشهر في النظام الرأسمالي: العرض والطلب. فمع بداية شهر الصوم الكريم يزداد الطلب على الخضر وبعض الأصناف لإعداد وجبات الإفطار، وفي ظلّ نقص المعروض ترتفع الأسعار. هذه الإسطوانة التي ذابت لكثرة ما أعيدت على مسامعنا، مبالغ فيها. ولا تمثّل السبب الحقيقي لارتفاع الأسعار، خصوصاً في بلد "مدولر"، ومفتوح على كلّ أشكال الاحتكارات والتلاعب بالأسعار، مثل لبنان.
على عادتها في كلّ عام مع بداية شهر رمضان، تطلق الدولية للمعلومات "مؤشّر الفتوش". والفتّوش هو طبق لبناني تقليدي يتكوّن من 15 صنفاً من الخضر والحشائش والتوابل والزيت والخبز. ويزداد استهلاك هذا الطبق في شهر الصوم لما يتضمّنه من قيمة غذائية مرتفعة وسوائل تساعد على تعويض الصائمين عن المياه. واللافت هذا العام لم يكن ارتفاع كلفة الطبق عن كلفته العام الماضي فحسب، إنّما زيادة أسعار العديد من مكوّناته بين ليلة وضحاها وارتفاع سعره بالدولار أيضاً بنسبة فاقت الارتفاع بالليرة. وهو ما يدلّ على عدم إمكان تطبيق قاعدة العرض والطلب على الارتفاع في الأسعار.
الفتوش يرتفع من 5 آلاف ليرة إلى 300 ألف
بلغت كلفة طبق الفتوش زنة 1.5 كيلوغرام يكفي 5 أشخاص، لهذا العام 288 ألف ليرة، مقارنة بـ 174 ألف ليرة للعام 2023. أي بفرق 114 ألف ليرة وبزيادة نسبتها 65 في المئة. وإذا ما أردنا احتساب السعر بالدولار يتبيّن أنّ سعر طبق الفتوش في العام 2023 كان 1.58 دولار على أساس سعر صرف يبلغ 110 الاف ليرة مقابل الدولار. ووصل سعر طبق الفتوش لهذا العام 3.2 دولار على أساس سعر صرف يبلغ 89500 ليرة مقابل الدولار. وعليه ارتفع سعر طبق الفتوش لنفس المكونات بالدولار بنسبة 102 في المئة على نحو يتجاوز الارتفاع بالليرة اللبنانية. وفي أول أيام الصوم، تبيّن للدولية للمعلومات أنّ أسعار الخضر والمواد التي تدخل في إعداد طبق ارتفعت بنسبة كبيرة عن يوم الإثنين 4 آذار 2024، أي قبل أسبوع واحد. فقد ارتفع سعر الحامض 100 في المئة والخس 33.3 في المئة، فيما ارتفع سعر الخيار 43 في المئة.
الجشع في ظلّ غياب الرقابة
ارتفاع الأسعار بالدولار لا مبرّر له سوى "جشع بعض التجار المترافق مع غياب الرقابة"، بحسب الدكتور بشارة حنّا الخبير في شؤون الدراسات الإحصائية والاقتصادية، ومدير كلية العلوم الاقتصادية وإدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية سابقاً. فـ "سلوك بعض التجار أصبح يعتمد من بعد نشوب الأزمة على قاعدة "أضرب واهرب"، أي محاولة تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح في وقت قصير، ساعد على ذلك دولرة الأسعار وفقدان المستهلكين لبورصة التسعير الحقيقية، وإمكان التذرّع بالظروف الدولية. ذلك على الرّغم من أنّ التضخّم العالمي في أوروبا وأميركا لم يتجاوز 12 في المئة في عز جائحة كورونا، وهو أخذ يتراجع من بعد تطبيق سياسات رفع الفائدة ليدور قرب معدلات 4 و5 في المئة. أما أحداث البحر الأحمر وارتفاع تكاليف الشحن، تُفرض حصراً على البضائع القادمة من شرق آسيا دون سواها من الوجهات وتراوح تكلفتها على المنتجات بين 5 و10 و15 في المئة حدًّا أقصى. وعليه، فإنّ تطبيق هذه المعادلة على بعض المنتجات والسلع يرفعها 20 في المئة حدّاً اقصى، وليس 45 في المئة.
وبالأرقام ارتفعت تكلفة طبق الفتوش خلال الأعوام الماضية، بحسب الدولية للمعلومات كالآتي:
- في العام 2020 بلغت 4,250 ليرة.
- في العام 2021 بلغت 12,287 ليرة أي بارتفاع نسبته 189 في المئة.
- في العام 2022 بلغت 50,500 ليرة أي بارتفاع نسبته 311 في المئة.
- في العام 2023 بلغت 174,127 ليرة بارتفاع مقداره 123,627 ليرة ونسبته 245 في المئة.
تبدّلات الأسعار على صعيد سنوي
في الوقت الذي ارتفع فيه سعر صرف الدولار بنسبة 10.6 في المئة فقط بين شباط 2023 وشباط 2024، ارتفعت أسعار السلة الغذائية التي تقيسها وزارة الاقتصاد (المكتب الفنّي لسياسة الأسعار) بنسبة 45 في المئة كمتوسط عام. وبالتفصيل ارتفعت أسعار الخضر الطازجة بين شباط 2023 وشباط 2024 بنسبة 110 في المئة، والفواكه بنسبة 139 في المئة، واللحوم بنسبة 56 في المئة، والبيض ومنتجات الحليب بنسبة 34 في المئة، والمنتجات الدهنية والزيتية بنسبة 55 في المئة والمعلبات بنسبة 47 في المئة. وحدها الحبوب والبذور والثمار الجوزية ارتفعت بنسبة أقلّ من ارتفاع سعر الصرف وبنسبة بلغت 3 في المئة فقط.
يدفع غياب الاستقرار من وجهة نظر حنا إلى "التسعير بهامش ربح أعلى، خوفاً من أيّ تبدّل اقتصادي أو أمنى يؤثر سلباً على الأعمال". ولهذا مثلاً شهدنا أخيراً ارتفاع عبوة الماء زنة 16 ليتراً المخصّصة لبرادات المياه من 200 إلى 250 و300 ألف ليرة من دون أيّ مبرّر يذكر. والأمر نفسه ينسحب على بعض أصناف الخبز. والسبب، برأي حنا، هو تعمّد زيادة التجار للأسعار لواحد من الأسباب الثلاثة التالية:
نتيجة سلوك غير عقلاني للمحافظة على نسبة أرباح مرتفعة. فالقيمة المضافة في المؤسسات في أعوام ما قبل الأزمة كانت نحو 50 في المئة، وأصبحت 60 في المئة في الوقت الحاضر.
بسبب جشع رأس المال، فالعائد على 100 دولار رُفع إلى 60 و70 وأحياناً إلى 100 في المئة، بدلاً من 30 في المئة خشية من تعطّل المؤسسات نتيجة أي سبب من الأسباب الخارجة عن إرادة الجميع". إذ تظهر دراسة لحنا أنّ الأسعار بالدولا زادت بين العامين 2018 و2023 بنسبة 40 في المئة. وما زال المسؤولون "يمنّنون" المواطنين بخدمة الدولرة التي هدفت إلى الحدّ من ارتفاع الأسعار.
غياب الرقابة. وهذا يظهر في استمرار فرض ضريبة على مستوردات المحروقات من أوروبا على الرّغم من إعفاء لبنان من هذه الضريبة.
مقابل كلّ هذه الارتفاعات في الأسعار عجزت سياسات تصحيح الرواتب من إعادة جزء بسيط من القيمة الشرائية للرواتب. فقيمة رواتب الأساتذة المتعاقدين في الجامعة اللبنانية لم تصل بعد إلى 10 في المئة ممّا كانت عليه سابقاً، وقد جُرّدوا من جميع الضمانات وفي طليعتها الصحية.