شكّل التحرير المقيّد لسعر الصرف واحداً من أبرز أوجه التشابه بين الأزمتين الاقتصاديتين المصرية واللبنانية. الدولتان كُتب عليهما التعايش مع "ثقب" السوق السوداء الذي يبتلع ما يدخل مداره من دولارات، ويتجشّأ المزيد من التضخّم والانهيارات. وبدلاً من استقلال تحرير سعر الصرف والابتعاد قدر الإمكان عن محور المشكلة، ظلّت سياسات "بلد الأرز" و"النيل" تدور في فلك التحرير المقيّد للعملة، لتُبلع كلّ مرّة، إلى أن قرّرت مصر تغيير المسار جذرياً لمرّة أولى ونهائية!
بخطوة طال انتظارها، "عوّمت" مصر عملتها الوطنية. فالتحرير المقيّد لـ "الجنيه" الذي انتهجته الحكومة على مراحل منذ العام 2016 "كبّل" الاقتصاد الشرعي وأطلق العنان للسوق السوداء. إذ مع كلّ تحرير جزئي للعملة، كانت السوق الموازية تفلت، حتّى وصل سعر الصرف فيها أخيراً إلى 70 جنيهاً مقابل الدولار. ساعد على ذلك نقص المعروض من العملة الأجنبية نتيجة تراكم المشاكل الداخلية والخارجية.
آليات السوق لتحديد سعر الصرف
إزاء هذا الواقع، "وفي إطار حرصه على تحقيق الدور المنوط به وهو حماية متطلّبات التنمية المستدامة، قرر المركزي السماح لسعر الصرف بأن يتحدّد وفقاً لآليات السوق"، بحسب ما ذكر بيان صادر عن المركزي المصري عقب اجتماع استثنائي للجنة السياسة النقدية في 6 آذار2024. كما قررت "اللجنة" رفع سعر الفائدة على الجنيه بنسبة 6 في المئة لتبلغ نحو 27.25 في المئة.
فور الإعلان انخفض سعر الصرف الرسمي في التعاملات والمصارف من 30.0 جنيهاً مقابل الدولار إلى نحو 50، مقلّصاً الفرق بينه وبين السوق السواء إلى أقلّ من خمسة جنيهات للدولار. وتهدف السياسة إلى دفع الجمهور من حاملي الدولار إلى بيعه في السوق النظامية للاستفادة من الفائدة المرتفعة على الجنيه. وبذلك تكون قد أصابت السياسة النقدية "عصفوري" زيادة عرض الدولار وامتصاص الجنيه بحجر تعويم سعر الصرف الواحد.
لبنان يجافي إصلاح سعر الصرف
ما فعلته مصر أخيراً لتطبيق أحد أهم شروط صندوق النقد الدولي والحصول على التيسير المالي، "هو ما ينقص لبنان". بحسب رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية الدكتور منير راشد. "إذ لا اقتصاد ولا استثمارات ولا تدفق لرؤوس الأموال من دون تحرير سعر الصرف. فتحرير سعر الصرف يؤمّن التوازن في السوق من جهة، ويحفّز من جهة ثانية القطاع الخاص من مصارف وشركات وأفراد على تمويل الدولة. عندما يُدفع العائد على السندات الأجنبية التي تصدرها الحكومات بالعملة الوطنية على سعر صرف السوق الحقيقي، لا أحد يعترض. الأمر الذي يمكن الدولة من خدمة ديونها بالعملات الصعبة".
الأزمة النقدية المصرية التي تسبق نشوب الأزمة اللبنانية بحوالى أربع سنوات لم تشكّل عبرة للمسؤولين اللبنانيين. فعادوا منذ العام 2019 ليكرروا الأخطاء المميتة نفسها. فاستمروا في تقييد سعر الصرف، وبدل سعر الـ 1508 – 1515، الأشهر من نار على علم، ثبّت الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة سعر الصرف في شباط 2023 على 15 ألف ليرة. وعندما تأمّل اللبنانيون خيراً بوعود عدم استنزاف ما تبقّى من دولاراتهم للدفاع عن سعر الصرف، والانتهاء من منصة صيرفة، خلقت القيادة الجديدة في مصرف لبنان سعراً للصرف جديداً ثابتاً هو 89500 ليرة، ولم تعد توفّر طريقة للدفع عنه، ولو كان الثمن الإمعان في انكماش الاقتصاد وحرمان المودعين من أموالهم في المصارف. وبالتالي، الاتجاه مرة جديدة إلى "ليلرة" الودائع من خلال التحضير على وضع سقف جديد للسحب من الحسابات المصرفية بالدولار بقيمة 25 ألف ليرة بدلاً من 15 ألفاً.
سعر الصرف المعتمد من مصرف لبنان، والمسمّى سعر السوق، لا يمثّل السعر الحقيقي أولاً، ولا يؤمّن الاستقرار النقدي ثانياً. وما هو سوى تثبيت جديد يشبه ما جرّبته مصر في العام 2016، وآذار وتشرين الأول 2022 وكانون الأول 2023، وأثبت فشله. إذ كانت تحرّر بشكل مقيّد سعر الصرف الرسمي مع كلّ ارتفاع في الدولار، من دون أن تستطيع اللحاق بسعر السوق السوداء. و"هذا بالضبط ما حصل في لبنان وسيستمر حصوله ما لم يتم تحرير سعر الصرف كخطوة أولى"، يقول راشد. "يعقبها إعادة جدولة الودائع، بالاستناد إلى السعر الحر. الأمر الذي يمكّن الدولة من تحويل جزء من ديونها، أو من ودائع المصارف في مصرف لبنان إلى الليرة بناء على السعر الحر وتحرير الاحتياطيات. إذ لا يعود هناك من فرق في المعاملات الداخلية بين الليرة والدولار".
"التحرير" أولاً
اعتقاد البعض أنّ مصر لم تبادر لتحرير سعر الصرف، ما لم تكن موعودة بعشرات المليارات من الدولارات من التدفقات تضمن لها وفرة المعروض من العملات الأجنبية، وتعوّض النقص المترتب على تراجع السياحة وعائدات قناة السويس بأكثر من 60 في المئة "غير دقيق"، برأي راشد. "فالأموال لم تكن لتتدفق على الاقتصاد المصري لو لم تلتزم مصر تحرير سعر الصرف. وعليه، فإنّ التحرير هو الخطوة الأولى التي تعقبها التدفقات النقدية". وعلى لبنان "الاسترشاد بالتجربة المصرية وسن قانون يتضمن حرية سعر الصرف وعدم تقييده مرة جديدة، لاستعادة ثقة المستثمرين وتحفيز تدفّق رؤوس الأموال، وضمان حرية الأسواق المالية".
ما حصل في مصر من حيث تعويم سعر الصرف، وما يُطلب من لبنان الاقتداء به لا يعني نهاية المشكلات. فامام مصر مشوار طويل لرفع الدعم وإعادة هيكلة القطاع العام والتخفيف من وطأته على النفقات. فيما ينتظر من لبنان إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وإقرار القوانين الإصلاحية والهيئات الناظمة وإصلاح القضاء... وغيرها الكثير من المتطلّبات المحلية والدولية التي يجب أن تسير جنباً إلى جنب مع تحرير سعر الصرف فعلياً، لا نظرياً.