تتعدّد مشكلات قطاع الطّاقة في لبنان، والنتيجة واحدة: لا كهرباء. من دون الرجوع كثيراً للوراء، كان يفترض مع نهاية العام الماضي "تأمين ما بين 8 و10 ساعات تغذية في اليوم"، بناء على المرحلة الأولى من خطّة الكهرباء التي أقرّتها الحكومة في العام 2022. وهذا ما لم يحصل، بعدتعذّر استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، والعجز عن خفض الخسائر.
الخطّة العامّة التي قضت بتأمين الكهرباء 24/7 في غضون ثلاثة أعوام بعد تطوير الإنتاج وخصخصة التوزيع، "دُفنت في مهدها"، لتحلّ مكانها "خطّة الطوارئ". والأخيرة قضت برفع التّعرفة دفعة واحدة، واحتسابها بالدولار على سعر السوق. وذلك من ضمن جملة من الإجراءاتهدفت لزيادة إيرادات المؤسّسة، وتمكينها من شراء الفيول ورفع الإنتاج. وهذا ما لم يحصل أيضاً. مع العلم أنّ وضع المعامل الحرارية والكهرومائية في طاقتها القصوى ينتج بحسب المعلومات المنشورة على موقع مؤسسة كهرباء لبنان 2616 ميغاواط، مقسّمة على الشكل التالي: 2364 ميغاواط يتمّ انتاجها من 7 معامل حرارية، و252 ميغاواط تنتجها المعامل الكهرومائية. وإذا ما أضفنا إليها 1000 ميغاواط من الطّاقة الشمسية الفردية المنتجة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، أصبح المجموع 3616 ميغاواط من أصل حاجة لا تتجاوز 3000. ما يعني من الناحية النظرية تحقيق فائض في إنتاج الكهرباء بمقدار 600 ميغاواط. وبحسب المنطق نفسه، فإنّ بيع الكهرباء للمواطنين بأعلى من سعر الكلفة يجب أن يكفي المؤسسة، وذلك على غرار ما يحصل مع أصحاب المولّدات الخاصّة أو في كهرباء زحلة. فلماذا إذاً يستمرّ العجز في شراء الفيول وتشغيل المعامل ولو بطاقتها الدنيا؟ وتالياً تأمين الكهرباء 10 ساعات يومياً بأقلّ الإيمان؟
الدّولة تسدّد ثمن الفيول العراقي
أسباب العجز عن شراء الفيول لسدّ حاجة المعامل عديدة، منها أنّ ما يدفعه المستهلكون من فواتير للكهرباء عالق في حساب الدولة في مصرف لبنان، الذي يمتنع عن تحويله إلى دولار عبر شرائه من السوق، خشية أن تؤدّي زيادة الطلب على العملة الصعبة إلى اهتزاز سعر الصرف. والمفارقة أنّ "الدولة ما زالت تدفع ثمن فيول الكهرباء من خلال "السواب" مع الدولة العراقية". يقول الباحث في المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور غسان بيضون. إذ تنصّ اتفاقية تبادل النّفط من العراق المُقرّة بقانون في مجلس النواب على فتح لبنان حساباً في مصرفه المركزي لمصلحة العراق، يوضع فيه بدل قيمة النفط بالليرة اللبنانية ويستخدمه العراقيون في تسديد نفقات داخلية على التعليم أو الطب وغيرهما. "إلّا أنّ هذا الحساب لم يفعّل بعد"، بحسب بيضون. وهناك طلب مقدّم من لبنان في أيلول 2023 لإعفائه من حوالى مليار و100 مليون دولار ثمن الفيول، أو تأجيل الاستحقاق مدّة عام. وعليه، فإنّ كلّ كمّيات الفيول التي تشترى منذ العام 2022 من العراق تسجّل في ذمّة الدولة، بما يشبه تمويل عمليات الشراء التي كانت تُجرى سابقاً بسلف خزينة". وأغرب ما يحصل هو "طلب فتح اعتمادات من أجل تمويل الشحنات من النفط العراقي مع العلم أنّه لا يتمّ تسديد ثمن الفيول. وكنّا قد تقدّمنا بأسئلة للمعنيين في وزارتي الطاقة والمال لإيضاح هذه النقاط من دون أن نحصل على جواب"، يتابع بيضون.
الهدر يتفاقم
المشكلة الثانية التي لا تقلّ خطورة تتمثل في أنّ كلّ ميغاواط يوضع على الشبكة يختفي أكثر من نصفه هدراً أو سرقة. إذ بحسب الخبير في ملفّ الطّاقة محمد بصبوص، نشهد أخيراً زيادة مطردة في الهدر غير التقني تحديداً، إذ وصل بحسب آخر التقديرات إلى 45 في المئة. وذلك على الرغم من تشديد البنك الدولي في كلّ تقاريره على ضرورة تخفيض الهدرين قبل أيّ زيادة في التعرفة كي لاتذهب النتائج سدى، واشتراط الحكومة رفع ساعات التغذية إلى ما بين 8 و10 ساعات بالتزامن مع رفع التعرفة.
تفترض الدورة التجارية المنطقية لأيّ نشاط، ومن ضمنها توليد الكهرباء تأمين التمويل من أجل شراء الفيول، ومن ثمّ زيادة الإنتاج فالبيع وتحصيل الأموال. وهكذا دواليك. هذه الدورة الطبيعية ما زال يقطعها تأخّر الفوترة حوالى 10 أشهر في الكهرباء. وعليه من سيؤمّن كلفة المحروقات عن حوالى السنة إلى أن تتأمّن المبالغ"، يسأل بيضون. "فمصرف لبنان يرفض فتح الاعتمادات. والحكومة تخرج بقرارات غير مسبوقة، منها على سبيل المثل، طلب مجلس الوزراء من وزير المال فتح اعتماد بكفالة أصول الخزينة. وهذه البدعة تبقى غير مفهومة كيفما قلبناها. إذ عدا غرابة المصطلح من حيث الشكل فهو يفتقد، من حيث المضمون، المنطق لأنّ الخزينة لا تمتلك أصولاً لتكفل بها فتح اعتمادات".
واقع المعامل وقدرتها الانتاجية الفعلية
من الناحية التقنية، يعيد عضو مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان المهندس سامر سليم العجز عن انتاج الحد الأقصى من الكهرباء، إلى أربعة عوامل رئيسة:
الأول هو تقادم المعامل، وحاجتها للصيانة، وإخراج بعضها من الخدمة الفعلية بسبب ارتفاع كلفةالإنتاج وتسبّبها بتلوّث كبير للبيئة. وبالتفصيل: فإنّ أكبر معملين في لبنان لإنتاج الكهرباء هما الزهراني ودير عمار (ينتجان 930 ميغاواط) غير موضوعين بطاقتيْهما الانتاجية القصوى بسبب أعمال الصيانة، والحاجة إلى كمّيات كبيرة من الوقود. أمّا بالنّسبة إلى معامل المولّدات العكسية في الذوق والجية الجديدين (ينتجان 396 ميغاواط) فمتوقفان عن العمل بسبب تفاقم المشاكل معالشركة المشغّلة MEP، وإحجامها عن صيانة المعامل بانتظار قبض مستحقّاتها المتراكمة بالدولار"الفريش". والأمور تذهب إلى مزيد من التعقيد. أمّا في ما يتعلّق بمعملَي الذوق والجيّة القديمين فمتوقفان عن العمل بسبب اعتمادهما على الديزل أويل، واستهلاكهما الكثير من المحروقات وتسبّبهما بكثير من التلوّث. وكان يفترض إخراجهما من الخدمة الفعلية مع نهاية العام 2023. علماً أن المعامل المائية الأكبر على نهر الليطاني تنتج 70 ميغاواط، إنّما التوزيع يتمّ بشكل استنسابي من قبل مصلحة مياه الليطاني من دون العودة إلى الكهرباء، بما يخالف القانون، ذلك لامتلاك الكهرباء حصرية الإنتاج والنقل والتوزيع. وفيما خصّ المعملان الحراريان في صور وبعلبك فإنّ كلفة الإنتاج فيهما تفوق سعر المبيع وتصل إلى 34 سنتاً للكيلوواط ساعة. وتالياً هما متوقفان عن العمل. وعليه، فإنّ الطاقة القصوى التي تنتج من المعامل تراوح بين 500 و800 ميغاواط في أحسن الأحوال.
الثاني، رفض مصرف لبنان تحويل أموال الجباية بالليرة إلى الدولار. وذلك خلافاً لما أقرّه مجلسالوزراء ووافق عليه كلّ من مصرف لبنان ووزارة المال. ويوجد في حساب الكهرباء في مصرف لبنان اليوم 6000 مليار ليرة عالقة لا يمكن تحويلها للدولار لشراء الفيول أو تسديد الالتزامات.
الثالث، عدم التزام مؤسسات الدولة تسديد ما عليها من متأخّرات لمصلحة الكهرباء. واستمرارالمخيمات بعدم تسديد ما عليها من فواتير.
عدم امتلاك مؤسسة الكهرباء القدرة على إدارة ملف الفيول. وذلك استمرار وزارة الطاقة بعقدصفقات استيراد النفط. مع العلم أنّ هذه العملية هي من صلاحية مؤسسة الكهرباء وليس الوزارة.
أمام محدودية كمية الفيول الثقيل العراقي التي تصل شهرياً بعد استبدالها بوقود صالح للمعامل، وعدم القدرة على صيانة المعامل العكسية واستبدال القديمة "لا تضع الكهرباء على الشبكة الكمية الكافية من الطاقة لضمان استقرارها، والتي يجب ألّا تنخفض عن 500 ميغاواط، وهذا الواقع يعوق أيضاً إمكانية وضع الكمّيات المنتجة من الطاقة الشمسية على الشبكة، نظراً لتطلّبها وجود طاقة لا تقل عن 1000 ميغاواط بشكل دائم"، بحسب سليم. "ومن المعوقات التي واجهت الكهرباء أيضاً زيادة التغذية التي سترفع الفواتير إلى معدلات قياسية بسبب زيادة الاستهلاك. خصوصاً في الفترة التي سبقت إلغاء رسم التأهيل والتسعير على أساس صيرفة + 20 في المئة. واليوم، وبعد إزالة نسبة التحوّط وإلغاء بدل التأهيل، فإنّ قيمة الفواتير ستنخفض بمقدار المليون إلىالمليون ونصف المليون تقريباً...
ابتلاء اللبنانيين بأسوأ خدمة كهرباء لأعلى تعرفة على الصعيد العالمي ليس قدراً، إنّما هو قرار بإهمال الإصلاحات. وعلى غرار مختلف الملفّات الحياتية يوصل المسؤولون المواطنين بالمماحكات والخلافات وتمييع المسؤوليات إلى مرحلة اليأس من الإصلاح. فينصرف المواطن إلى تأمين حاجاته على نحو يناسب مصالحه، ويستمرّ في دفع "الخوّات" أملاً بتغيّر الواقع في يوم من الأيام. وهنا يكمن السبب وراء تجذّر الانهيار واستمراره طويلاً على جميع المستويات.