عقب محاولتي تنقيب مُحبِطتين عن النّفط في مياهنا البحرية، أقرّ البرلمان الصندوق السيادي. وهذا "تقليد مألوف" في البلد الذي أعلن مسؤولوه أنّه نفطي، قبل سنوات من بدء الاستكشاف الفعلي. نشاط الكتل النيابية المفرط بتقديم أربع مقترحات للصندوق. واستعجال لجنة المال والموازنة "تعليب" المقترحات، وإخراجها بقانونٍ، مُمهور بمصادقة الهيئة العامة، كان لافتاً. ولاسيّما أنّ أحد أترابه المتعلّق بالحماية الاجتماعية، بقي منسياً لعشرين عاما، في أدراج انعدام مصلحة السلطة به، بالتمام والكمال.
السرعة القياسية بإقرار "صندوق" لن يُملأ بعائدات النفط والغاز قبل عشرات السنوات، وقدّ لا يُملأ أبداً، أثارت الرّيبة. خصوصاً أنّه سيتحوّل سريعاً إلى جهاز تنفيذي إضافي يكلّف الخزينة شهرياً عشرات آلاف الدولارات. وقد ترجمت الخبيرة في حوكمة النفط والغاز ديانا القيسي إقرار القانون بتغريدة، تمنّت فيها من كلّ قلبها أن "لا يُعثر على قطرة بترول واحدة قبل أن يتمّ إصلاح البلد عن بكرة أبيه".
الصندوق في الشكل
من حيث الشكل قسّم الصندوق إلى محفظتين. الأولى للادّخار وللاستثمار بنسبة 75 في المئة في الخارج، والثانية بنسبة 25 في المئة للتنمية، تتكوّن من العائدات الضريبية النّاتجة عن الأنشطة البترولية، ويخصّص جزء منها لمشاريع التنمية المحلّية من خلال موازنة مُقرّة، وتوضع في حساب خاص بمصرف لبنان. هذا التقسيم نظري بحت، برأي القيسي، ذلك أنّ "شكل الصندوق يُحدّد بناء على استراتيجية ماكرو – اقتصادية، لم نضعها بعد. وعلى أساس هذه الاستراتيجية يقرّر كيف ينهض الاقتصاد، وما هي حاجاته، وما الأدوات الواجب تزويده بها من أجل إتمام متطلّبات النّهوض. ومن بعدها يتحدّد كيفية توظيف العائدات من النفط والغاز". وفي ما يخصّ وضع الجزء المحدّد للتنمية المحلية في حساب خاص في مصرف لبنان، يفترض بالبداية إعادة هيكلة المصرف المشكوك في موازنته وإدارته للأموال، والذي خصّص له ثلاثة من أكبر شركات التدقيق العالمية لسبر أغوار مخالفاته، ولم تفلح.
السياق المنطقي للأمور كان يفترض أيضا، حلّ أزمة الدين العام بشقيّه الدّاخلي والخارجي قبل "تكبير الفشخة" نحو الصندوق السيادي. ففي الشكل أيضاً يبدو إقرار بلد، متخلّف عن سداد ديونه منذ ثلاث سنوات، صندوق ثروة، أمراً سريالياً. ليس لكونه يخطّط للثراء وهو مدين، إنّما لكونه فاشل في إدارة الأموال. والدليل مراكمته ديناً داخلياً خيالياً يفوق أي وصف. وكلّ أجهزة رقابته الداخلية معطّلة أو شبه معطّلة، كمجلس الخدمة المدنية الذي رُبط به انتقاء المرشّحين، ووزارة الدّولة للتنمية الإدارية، وديوان المحاسبة، والقضاء... و"هذه المؤسسات عاجزة عن القيام بنفسها، فأضيف إليها همّ جديد"، برأي القيسي. "هذا عدا عن ضرب المشرّع بعرض الحائط الممارسات العالمية الفضلى، والتي تبيّن بمعظمها عدم إقرار الدّول للصناديق السيادية قبل 15 سنة من بدء تحقيق العوائد. وذلك من أجل فهم أفضل لحجم الواردات واتّساقها وإمكانيات استمرارها... وغيرها العديد من العوامل التي يتمّ يأخذ بها لبنان".
السرعة القياسية بإقرار "صندوق" لن يُملأ بعائدات النفط والغاز قبل عشرات السنوات، وقدّ لا يُملأ أبداً، أثارت الرّيبة
الإصلاحات أوّلاً
في المضمون أتى هذا القانون خلافاً لوعود قطعها نوّاب، بأنّه لن يُنشأ قبل الاتفاق على شروط مسبقة، من قبيل:
- إجراء تدقيق كامل في مصرف لبنان.
- إعادة هيكلة الدّين العام وتحديد سقفه.
- إقرار الإصلاحات المالية الجوهرية والأساسية.
- تبيان حجم العائدات من الإنتاج الفعلي.
المفارقة أنّ البرلمان لم يقرّ قانون الصندوق فحسب، إنّما أكّد على مباشرة عمله وتعيين مجلس إدارته وأجهزته التنفيذية فور صدور القانون. حيث نصّت المادة 23 على وجوب قيام مجلس الوزراء بـ "تعيين أعضاء مجلس الإدارة والرئيس بعد نشر القانون وصدور المراسيم التطبيقية (...) وتغطّي نفقات الصندوق في السنة الأولى لإنشائه بموجب سلفة خزينة. وهذا يمثّل قمّة التناقض من وجهة نظر القيسي. فالخزينة مفلسة وعائدات هذا الصندوق ما زالت تقتصر على بيع المسوحات الزلزالية الموجودة في حساب في مصرف لبنان وتقدّر بحوالي 45 مليون دولار. وهي تتطلّب قبل نقلها إلى الصندوق بحسب ما تنصّ المادّة نفسها التّدقيق بها ومعرفة ما تمّ صرفه منها وعلى ماذا.
التقسيم الذي اعتمد لواردات الصندوق غير منطقي. فتخصيص نسبة 25 في المئة من العائدات الضريبية من الأنشطة البترولية للاستثمار في الداخل يتناقض مع حالة الانكماش الاقتصادي (نمو سلبي) والمخاطر العالية. في الوقت الذي يشدّد فيه القانون في العديد من مواده على مراعاة الخطر المعتدل في ما يتعلق بالتوظيف الخارجي. وهذا التناقض يفتقر إلى المنطق برأي القيسي. ويستنتج منه تكريس عقلية المحاصصة والتنفيعات الداخلية. وما يزيد الشكوك اقتصار المحظورات الاستثمارية في الداخل على أيّ نشاط يكون لأعضاء مجلس الإدارة والفريق الإداري أو أقاربهم حتّى الدرجة الرابعة منفعة شخصية، وعدم امتداده إلى كلّ الأشخاص المعرّضين سياسياً PEP. للحؤول دون تضارب المصالح. ومن الأمور التي تستحقّ الوقوف عندها بحسب القانون هو حظر استعمال أموال الصندوق لتسديد ديون الدولة إلّا إذا أظهر قطع الحساب فائضاً اولياً في وارداتها على نفقاتها، فيمكن استخدام عائدات محفظة التنمية فقط لهذا الغرض. وهذا الشرط يمكن كسره بسهولة في حال العجز الكلّي للدولة عن إتمام أبسط المتطلّبات الأساسية. ومن هنا تؤكّد القيسي أنّ "شروط السّحب من الصندوق يجب أن تكون قويّة وتحت الرقابة. ويجب عدم استعمال محفظة التنمية لسدّ الدّين حتّى في الحالة المذكورة إنّما الادخار للأجيال المقبلة كما نصّ القانون 132/2010.
يوحي القانون في الشكل أنّه عصري ويراعي أقصى درجات الشفافية، فيما يمكن بسهولة الاستنتاج من المضمون أنّه شغل على الطريقة اللبنانية. فالمدقّق الخارجي الذي يشترط وجوده يمكن أن يكون محلّي معترف به من الخارج، ويعيّن من مجلس الوزراء. ودور مؤسسة التوظيف الخارجية لانتقاء أسماء أعضاء مجلس الإدارة يقتصر دورها على تقييم اللائحة التي تصل إلى مجلس الخدمة المدنية.
أصبح للبنان صندوقاً سيادياً بالتزامن مع إغلاق بئر استكشافي ثان في حقلين مختلفين، وإحجام الشركات النفط العالية عن البحث في بحر لبنان. النتيجة ستكون موظفون يتقاضون عشرات آلاف الدولارات لسنوات عن صندوق "حيلته وفتيلته" بضعة ملايين من الدولارات.