نشر آلاف روّاد مواقع التواصل الاجتماعي صورة للتبليغ الذي وصلهم من شركة ميتا، يعلمهم عن حذف منشوراتهم أو توقيف حساباتهم...
ما الذي يدور في ذهنك؟ بهذه العبارة يستقبلك موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ليشجّعك على التعبير عن آرائك وأفكارك، وما إن تنشر أيّ صورة أو فيديو أو نصّ فيه عبارات داعمة لفلسطين ومندّدة بما تراه جريمة الحرب المرتكبة والإبادة الجماعية الممارسة بحق الفلسطينيين، يُحذف منشورك، أو تُعلّق صفحتك، أو تُصبح غير متاحة للعموم، على الرّغم من أنّ منشورك public. وقد تصل الإجراءات المتّخذة بحقّك إلى حدّ تجميد حسابك، أو تعليقه، أو حتّى حذفه. أمّا الذريعة فهي معارضة منشورك لسياسات المنصّة.
إذاً هي سياسات القمع وكمّ الأفواه والتضييف على المحتوى الداعم لفلسطين الذي تمارسه شركة "ميتا" المالكة لتطبيقات "فيسبوك" و"إنستغرام" و"واتساب"، دون إتاحة الفرصة لهم للطّعن بهذه القرارات، لتصبح حريّة التعبير بخطر. فبممارساتها هذه تخالف الشّركة أهمّ مبدأ من مبادئ حقوق الانسان وهو مبدأ حرّيّة التعبير التي نصّت عليها المادة 19 من شرعة حقوق الإنسان وجاء فيها: لكلّ شخص الحقّ في حرّيّة الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريّة اعتناق الآراء دون أيّ تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقّيها وإذاعتها بأيّة وسيلة كانت دون تقيّد بالحدود الجغرافية. فحريّة التعبير هي حقّ أساسي من حقوق الإنسان.
لصق تهمة الإرهاب بالفلسطينيين
في 19 تشرين الأول، اعتذرت "ميتا" بعد إدراج كلمة "إرهابي" في السّيرة الذاتية لبعض الفلسطينيين من مستخدمي منصّتها "انستغرام"، وزعمت أنّه خطأ في ميزة الترجمة التلقائية.
هذا "الخطأ" المزعوم طاول حسابات مستخدمين كتبوا كلمة فلسطيني بالإنكليزية في المساحة المخصّصة للتعريف عن أنفسهم عبر حساباتهم على "انستغرام"، وأولئك الذين استخدموا الرمز التعبيري لعلم فلسطين، وكلّ من كتب "الحمد لله" باللغة العربية. وبعد الانتقادات التي واجهتها "ميتا"، أكّدت أنها حلّت "المشكلة".
"ميتا" كشفت أنّها خلال الأيّام الثلاثة التي أعقبت بدء عملية طوفان الأقصى، حذفت أو غطّت برسائل تحذيرية نحو 795 ألف رسالة باللغتين العربية والعبرية. ومعظم المحتوى المستهدف هو ذلك المؤيد للفلسطينيين والمدين لـ"وحشية الاحتلال الإسرائيلي." هذا الانحياز دفع الخبير في منصات التواصل الاجتماعي، التونسي أحمد قوبعة، إلى الاستقالة من عضوية هيئة القادة في الشرق الأوسط وأفريقيا التابعة لـ"ميتا".
كما في بعض الحالات، لم يُسمح لمستخدمي "انستغرام" بالتعليق على منشورات أخرى، وانبثقت رسالة أمامهم نصّها: "نحن نقيّد نشاطاً معيناً لحماية مجتمعنا. بناءً على استخدامك، لن يكون هذا الإجراء متاحاً لك حتى [التاريخ]. أخبرنا إذا كنت تعتقد أنّنا ارتكبنا خطأ".
وسبق أن اتُهمت "ميتا" بقمع الأصوات الفلسطينية. وأكد تقرير مستقلّ حدوث ذلك، وتحديداً خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في أيار 2021. أعدّت التقرير شركة الاستشارات المستقلة "بزنس فور سوشال ريسبونسيبيليتي" (بي إس آر)، بتكليف من "ميتا"، وركّز على الرقابة التي فرضتها الشركة والاتّهامات بالتحيز التي وُجهت لها خلال هبّات الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال عام 2021.
وجاء في التقرير الذي نشر العام الماضي: "يبدو أنّ الإجراءات التي اتخذتها ميتا في أيار 2021 كان لها تأثير سلبي على حقوق الإنسان، وتحديداً على حق المستخدمين الفلسطينيين بحرّية التعبير والتجمّع والمشاركة السياسية وعدم الخضوع للتمييز، وبالتالي على قدرتهم على مشاركة المعلومات ورؤيتهم للتجارب التي عاشوها في وقت حدوثها".
تجارب روّاد مواقع التواصل الاجتماعي مع قمع الحريات
وفي هذا الإطار، نشر آلاف روّاد مواقع التواصل الاجتماعي صورة للتبليغ الذي وصلهم من شركة ميتا، يعلمهم عن حذف منشوراتهم أو توقيف حساباتهم. وحملات التضييق شملت العرب والأجانب على حدّ سواء.
ومن هؤلاء نذكر، التيكتوكر الرومانية نيكول جينس التي انتشرت فيديوهاتها الساخرة من الكيان الإسرائيلي على مواقع التواصل الاجتماعي ولاقت شهرة واسعة، لينتهي المطاف بحذف عدد كبير من فيديوهاتها وتجميد حساباتها.
كما نقلت الكاتبة في المفكرة القانونية إيناس شرّي، تجربتها مع قمع وسائل التواصل الاجتماعي لحرية الرأي والتعبير، وقالت " قبل أيّام كتبت منشورًا على صفحتي على فيسبوك، لم أذكر فيه فلسطين ولا نكبتها، لم أذكر فيه غزّة ولا حصارها، لم أرفقه بصور من مستشفى المعمداني مكتوب عليها مثلًا "لا يوجد جرحى بل كلهم شهداء"، بل كتبت فقط أنّ صوت فيروز يخرج من السيّارات من حولي وهي تقول: "عيوننا إليك ترحل كلّ يوم". وما هي إلّا ثوان حتى وصلتني رسالة من فيسبوك تبلغني بأنّ الإعدادات عندي تغيّرت وأنّ أصدقائي فقط يستطيعون التعليق على منشوري "العام".
وبدوره نشر الصحافي رالف دوميط منشوراً على فيسبوك يظهر حذف عدد من منشوراته، وأرفقه بجملة "هذا لأننا نطقنا بالحقيقة".
فيما شاركت مولي كرابابل، وهي فنّانة ومؤلفة مقيمة في نيويورك، منشوراً من البرنامج التلفزيوني الإخباري "الديمقراطية الآن!"، يوثّق توزيع إسرائيل للأسلحة على المستوطنين في الضفة الغربية، فتلقّت إشعاراً نصّه: "لا يمكن إظهار حسابك لغير المتابعين". ذكر الإشعار أنّ حسابها لن يظهر في الاستكشاف أو البحث أو الاقتراحات أو فيديوهات "ريلز". ووصفت كرابابل ذلك بأنّها "محاولة خطيرة لخنق المعلومات".
أمّا الهدف من هذه الانتهاكات لحرّية التعبير، فواضح وضوح الشمس، وهو كتم أي صوت يناصر القضية الفلسطينيّة، في ظلّ تأييد كامل لأيّ منشور داعم لإسرائيل. لتصبح الشركات الأميركيّة الأصل، صهيونيّة الهوى.
فالشركتان العملاقتان ميتا وغوغل أعلنتا، انسحابهما من قمة الويب في لشبونة، وهي واحدة من أكبر الأحداث السنوية في قطاع التكنولوجيا، بعد انتقاد رجل الأعمال الأيرلندي بادي كوسغريف، المؤسس المشارك لقمة الويب، إسرائيل، حيث قد كتب على منصة إكس في 13 تشرين الأول أنّه "مصدوم من خطاب وأفعال العديد من قادة الغرب وحكوماته". وأضاف "جرائم الحرب تبقى جرائم حرب، حتى لو ارتكبها حلفاء، ويجب أن يُندّد بها".
وبذلك تؤكّد هذه الشركات المؤكّد، وهو أنّ الصهاينة هم من يديرون اللعبة فتصبح النتيجة معروفة: "لا يمكنك خوض حرب بوسائل اخترعها عدوّك".
وإلى ذلك، كانت شركة ميتا قد تلقّت "توبيخات" من الاتحاد الأوروبي لعدم معالجتها لما يعتبره الأخير "معلومات مضلّلة على منصاتها"، ممّا دفعها للاستجابة بحذف نحو 700 ألف منشور باللغتين العربية والعبرية، وصفتها بأنها "مزعجة أو غير قانونية" في ما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي على غزة.
في المقابل لم يرضخ إيلون ماسك للتهويل الأوروبي، وأبقى منصّة إكس (تويتر سابقاً) مفتوحة لجميع الآراء.
التضييق يطال المؤسّسات الإعلامية
والتضييق لم ينحصر بالأفراد بل طال مؤسسات اعلاميّة أيضا ومنها صفحة "شبكة قدس"، التي كانت أكبر صفحة إخبارية فلسطينية على منصة فيسبوك، حيث أغلقت ميتا حسابات المؤسسة بشكل نهائي، بعد أن كانت تضمّ 10 ملايين متابع، وقالت الشبكة إنّ الحذف تم بسبب رضوخ شركة ميتا للطلبات الإسرائيلية.
وعلى غرار شبكة القدس، تعرّضت صفحات قناة روسيا اليوم التابعة للدولة الروسيّة، للحجب ومن ثمّ الحذف، وقالت مديرة الأخبار في قناة (RT Arabic)، مايا منّاع، إن: "صفحة RT العربية، التي تضمّ 17 مليون متابع، غير متوفّرة حالياً على فيسبوك، فجأة حجبونا بدون إخطار أو تعليقات. فيما إدارة الصفحة تقدّمت باستفسار لإدارة الدّعم الفني بموقع فيسبوك ونحن بانتظار الرد".
وانتشرت على طرقات لبنان، إعلانات لمؤسسة RT تنتقد سياسة كمّ الأفواه التي تمارسها وسائل التواصل الاجتماعي بحق ّالقناة.
كما حاولت إسرائيل منع تغطية بعض القنوات العربية لما يحصل في غزّة، حيث أكّد وزير الاتصالات شلومو قرعي، في 15 تشرين الأول أنّه سيسعى للحصول على موافقة الحكومة لوقف النشاط المحلي لقناة "الجزيرة" القطرية، متّهما إيّاها بالتحريض لمصلحة حماس وتعريض حياة الجنود الإسرائيليين للخطر.
لتعود إسرائيل وتتراجع عن قرار حظر قناة "الجزيرة" القطرية وتتخذ اجراءات بمنع البث وإغلاق مكاتب قناة "الميادين" اللبنانية.
وفي الإطار نفسه كان قد ذكر تقرير لصحيفة الواشنطن بوست، أنّ الحكومة الإسرائيلية تخوض حربين في وقت واحد، حرباً ضدّ "حماس" في قطاع غزة، وحرباً داخلية تقمع فيها حرّية التعبير في الإعلام ومختلف وسائل التواصل الاجتماعي.
كما وبعد أن اختارت صحيفة طهران تايمز نشر صفحتها الأولى باللون الأسود حداداً على ضحايا الاستهداف الهمجي الإسرائيلي على المستشفى المعمداني وسط غزة. مُنعت الصحيفة من نشر صورة للصفحة الأولى على "انستغرام".
Canary Mission
على المقلب الآخر، نشط منذ انطلاق عمليّة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، ما يعرف بعمليات كناري أو Canary Mission وهي شبكة اجتماعية من "المخبرين" الذين يبلّغون عن أيّ نشاط يعارض الصهيونية والسياسة الأميركية، ويأتي الصحفيون وأساتذة الجامعات، والطلاب على قائمة المستهدفين في هذه الشبكة.
وتوزع الشبكة "قائمتها السوداء" على الأشخاص المعنيين في محاولة لنشر الرعب ومنع الناس من التعبير عن آراء تنتقد إسرائيل وسياسات الولايات المتحدة.
ونتيجة ذلك، يواجه الفلسطينيون الذين يعيشون داخل دولة إسرائيل، واحدة من أشرس موجات الملاحقات وتكميم الأفواه التي اتّخذت أشكالاً أكثر قمعاً، وشملت اعتقالات يومية واستدعاءات للتحقيق وحرماناً من التعليم وفصلاً من العمل بشكل تعسفي، بتهمة "تمجيد الإرهاب" على مواقع التواصل. حيث طُرد عشرات الطلاب العرب من المدارس والجامعات الإسرائيلية بدعوى دعمهم حماس، لمجرّد أنّهم طالبوا بوقف إطلاق النار، وجرى طرد موظفين فلسطينيين من أماكن عملهم، واشترطت شركات في التعيين ألاّ يكون المتقدّم "عربياً".
ومن بين الضحايا، الطالبة بيان الخطيب (23 عاماً) التي تم اعتقالها بسبب منشور على إنستغرام عن الأكلة الشعبية "الشكشوكة"، نشرت فيه صورة للطبق الذي طهته للفطور وعلّقت بكلمات تقول: "قريباً سنأكل شكشوكة النصر"، مرفقة بالعلم الفلسطيني.
وبناء على ما ذكر، تجاوزت ارتكابات "ميتا" كلّ المبادئ الحقوقيّة، وانتهكت على الملأ أهمّ حق ّمن حقوق الأفراد، معتنقة مبادئ مزدوجة، حيث تسمح لطرف بنشر ما يشاء وتمنع ذاك عن الطرف الآخر، وهو سلوك سبق أن شهدناه خلال الحرب الروسية الأوكرانية. وهذه الممارسات لم تتوقّف عند قمع الحريات، بل تدخل في إطار التعتيم الإعلامي على الحقائق ونشر الأكاذيب والأخبار المضلّلة ونقل الخبر من وجهة نظر واحدة، ما يكشف نفاق المؤسسات التي تنادي بحقّ الشعوب بالوصول إلى المعلومات.