بنان في خانة المتوسّط الأدنى للدّخل الفردي، بحسب البنك الدولي، بعدما كان تقييمه في خانة المتوسّط الأعلى...
تُجمع مختلف الآراء على فقدان جدوى "عدّة الشغل القديمة" التي أعلت البنيان الاقتصادي اللبناني لردح من الزمن. فبوّابة الشّرق على الغرب، أو العكس بالعكس، نُقلت من مرفأي بيروت وطرابلس، إلى حيفا وأشدود. ومصرف العرب الذي حمى في سالف الأيام فوائض النّفط، وشكّل ملجأ للرساميل الهاربة من جنون الفقّاعة العقارية، انهار. وتبوّء لبنان المراتب الأولى في حجم تحويلات المغتربين، مهدّد في المستقبل القريب بتراجع المستوى التعليمي المعاصر واسترخاص اللبنانيين في الخارج.
في المقابل لم "يزيّت" المسؤولين، بعد أربع سنوات على الانهيار، أدوات العمل الصدئة القائمة على الإنتاج. وعجزوا عن توظيف "صيحة العصر"، المتمثّلة بالتكنولوجيا الرقمية في شتّى الميادين، لتحقيق نقلة اقتصادية نوعية. فكانت النتيجة فقدان الناتج حوالي 66 في المئة من قيمته في غضون أقلّ من أربعة أعوام، وتراجعه من حدود 55 مليار دولار عشية الانهيار في العام 2019 إلى حدود 18.5 ملياراً راهناً. وتماشياً مع تقهقر النّاتج انخفض "النّاتج المحلّي الإجمالي الحقيقي للفرد"، في العام الثاني من الانهيار بشكل حدّ إلى ما بين 1086 و4255 دولاراً. ليوضع لبنان في خانة المتوسّط الأدنى للدّخل الفردي، بحسب البنك الدولي، بعدما كان تقييمه في خانة المتوسّط الأعلى، الذي يتراوح بين 4256 و13205 دولاراً. وارتفع معدّل الفقر إلى أكثر من 70 في المئة، وازدادت البطالة بين أوساط الشباب لتتجاوز 30 في المئة بحسب أرقام الإحصاء المركزي.
رفع قيمة النّاتج المحلّي الإجمالي
هذه المشاكل على ضخامتها تحلّ من النّاحية الاقتصادية، برفع الناتج المحلّي الإجمالي الشرعي. فكلّما زاد هذا الأخير كلّما ازدادت فرص التوظيف والثروة، وتقلٌصت نسبة الدين، مهما عظم، إلى النّاتج، وتحقّق الرخاء في المجتمع. إلّا أنّ "مهمّة رفع النّاتج عقب الأزمات النّقدية والمالية ليست بالمهمّة اليسيرة"، بحسب المديرة التنفيذية لـ "كلّنا إرادة" ديانا منعم. "إذ تُظهر الدّراسات رسوّ اقتصاديات 50 في المئة من الدّول التي أصيبت بأزمات مماثلة للأزمة اللبنانية، على حجم صغير، مع صعوبة بالغة في الخروج من الأزمة". وفي الحالة اللبنانية فإنّ إعادة الناتج إلى ما كان عليه قد تتطلّب 20 عاماً أو أكثر. وذلك بالنّظر إلى حجم الإصلاحات المحقّقة وسرعتها، وبناء على الإجابة على سؤال: أيّ دور اقتصادي نريد للبنان للمرحلة المقبلة؟!".
"مهمّة رفع النّاتج عقب الأزمات النّقدية والمالية ليست بالمهمّة اليسيرة"
المقوّمات الاقتصادية التي يمكن الاعتماد عليها
الإجابة على السّؤال المحوري تتطلّب معرفة ما نملك من مقومات اقتصادية وتحديد دور الدّولة في النموذج المبتغى. فعلى الرّغم من خسارة الكثير من الرساميل الفردية والمصرفية فإنّ "لبنان لا يزال يملك الرأسمال البشري. وثقافة القطاع الخاص. والفرادة اللبنانية –Lebanese brand، التي طوّرها الاغتراب (الدياسبورا) في الخارج، وحافظ التنوّع عليها في الداخل"، من وجهة نظر منعم. "وعلى المسؤولين جمع هذه المقوّمات، مع ما نملك من مقوّمات طبيعية في بوتقة واحدة للانطلاق باقتصاد حديث قائم على انتاج المعرفة، والمنتجات ذات القيمة المضافة المرتفعة في الصّناعة والزراعة والفنّ والتكنولوجيا والثقافة، وتصديرها. مع التركيز على أن تكون الطّاقة المتجدّدة في صلب أيّ نموذج اقتصادي مستقبلي".
الدّولة الحامية
أمّا في ما خصّ دور الدّولة بخلق وتفعيل هذا النموذج الاقتصادي فيجب تقليل الاعتماد على نظرية laisser faire laisser passer أو دعه يعمل دعه يمرّ. فالاقتصاد اللبناني لم يكن في تاريخه ليبراليا بالمعنى الحقيقي للكلمة، إنّما ريعيا"، برأي منعم. "ولا يوجد من الجهة الثانية دولة في العالم لم تعتمد سياسات حمائية مرحلية لتشجيع قطاعات تريد تطويرها. لا نتحدث هنا عن تدخّل الدولة بالقطاعات الصناعية مثل الأنظمة الاشتراكية، إنّما سياسات مؤقتة فاعلة تتدخّل عبر السياسات الضرائبية والرسوم وتحفيز الاستثمار بالبنى التحتية في سبيل تطوير قطاعات معينة. الأمر الذي يوفّر نقل الاقتصاد اللبناني إلى مكان أكثر تقدّماً في فترة سريعة. ولعلّنا نأخذ كوريا الجنوبية كنموذج. ففي خمسينات القرن الماضي كانت صادراتها الأساسية عبارة عن السمك النيء، والشعر المستعار. وبعد ٢٠ عاماً فقط كانت كوريا مصنع العالم للإلكترونيات والأجهزة الكهربائية الحديثة. وعليه بإمكان لبنان الانتقال بالاقتصاد بفترة قصيرة إلى مستوى جديد ومتطوّر إن توفّرت الإرادة.
من الجهة الأخرى لا يسعنا البحث في دور الدولة الاقتصادي من وجهة نظر منعم، "إن لم نبحث نوع وشكل الديبلوماسية التي ستعتمد". فانطلاقا من أنّ الدبلوماسية هي خدمة الاقتصاد يصحب المستشار الألماني في سفراته الرسمية ما لا يقلّ عن عشرة من أكبر المدراء التنفيذيين في القطاع الخاص، فيما يبحث لبنان عن كيفية إلغاء وظيفة المبعوثين الاقتصاديين بسبب نقص التمويل. ويعجز عن وضع حدّ لتهريب الممنوعات والإساءة لدول شقيقة وصديقة بالتصاريح الرسمية وغير الرسمية.
وضوح الرؤية عند الأكاديميين والاقتصاديين اللبنانيين الذين "نبت الشعر على لسانهم" وهم ينادون بالإصلاحات، يُقابل بتقّصد المسؤولين والسياسيين "ركل العلبة إلى الأمام" حفاظاً على مصالحهم. وبحسب مقال أكاديمي منشور بمجلة جورج تاون للشؤون الدّولية – Georgetown International Affairs تحت عنوان نهاية لعبة المحنة اللبنانية: إصلاح صندوق النّقد الدولي والاستعداد السياسي. يتبيّن لمعدّي التقرير بما لا يحمل الشكّ، بتخريب أيّ تقدّم في البرنامج مع صندوق النقد الدولي. ويتمّ ذلك من خلال توزيع الأدوار بين مختلف المكوّنات السياسية بطريقة تمنع أيّ إصلاحات وتمييع المحاسبة من خلال إلقاء اللوم على جهات أخرى. كما انخرطت هذه الأطراف مراراً وتكراراً في "فنّ الإصلاح الوهمي"، حيث تسنّ القوانين الإصلاحية مثل المنافسة والمشتريات العامّة، من دون أن توضع آلياتها التطبيقية. حتّى أنّ بعض السياسيين ذكروا صراحة أنّ البلاد قادرة على إدارة مشاكلها بنفسها ولا تحتاج إلى صندوق النّقد الدولي أو أي كيان أجنبي آخر. وبحسب مساعدة الرئيس لشؤون السياسات العامة والاستاذة المشاركة في الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية الدكتورة ليلى داغر التي ساهمت بإعداد التقرير. فإنّ تطبيق القوانين الإصلاحية يحرم النخب السياسية التي أنشأت اتحادات يخفّف من نفوذها. كما أنّه من المرجّح أن تكشف فساد الطبقة السياسية اللبنانية. وبالتّالي، فإنّ تأخيرها إلى ما لا نهاية قد يكون الردّ الأمثل للطبقة الحاكمة على أمل أن توفّر لهم "لعبة الانتظار" ما يكفي من الوقت للوصول إلى الموارد المقبلة، مثل عائدات الغاز الطبيعي.
على الرّغم من مخاطر الأرقام التي يتناولها البحث الأكاديمي، والتي تتعلّق بارتفاع صافي الخسائر المالية من 44 مليار دولار إلى أكثر من 72 ملياراً، وارتفاع معدّلات الفقر والعوز بشكل كبير، فإنّ الأخطر يبقى غياب النيّة بالتغيير، البارحة، اليوم وغداً على أحسن تقدير.