استدعاء المعلّمين في أكثر من مدرسة خاصة، للتوقيع على كتاب يعفي إدارة المدرسة من أيّ أجر أو بدل أو أتعاب في حالات الإقفال...
رضي الأهالي بدولرة المدارس الخاصة للأقساط، ولم يرض بعض الأخيرة بإنصاف المعلّمين والمعلّمات. فالرّواتب التي فقدت أكثر من 90 في المئة من قيمتها الحقيقية في العامين الأوّلين على الانهيار، لم ترتفع بنفس نسبة زيادة الأقساط. وممّا "زاد الطين بلة" مفاجأة الأطقم التعليمية بإجراءات إدارية توحي في الشّكل بأنّ أصحاب جزء من المؤسسات التربوية يعيشون في كوكب منفصل عن الواقع، فيما تكبّدهم مثل هذه التدابير في المضمون المزيد من الأكلاف، التي لا تعترف المدارس بها.
مع بداية العام الدراسي الحالي طلبت إدارات الكثير من المدارس من معلّميها عموماً وإدارييها خصوصاً الحضور قبل وصول التلاميذ، والمغادرة بعدهم. هذا الإجراء التنظيمي الذي يُفقد الاساتذة القدرة على استعمال وسائل نقل المدرسة بشكل مجّاني، ويضطرهم إلى التنقّل بسيّاراتهم الخاصّة، لم يترافق مع رفع بدل النقل. إذ بقي بدل النّقل المعترف به في عموم القطاع الخاص هو 250 ألف ليرة عن كلّ يوم حضور فعلي، فيما رُفع في القطاع العام إلى 450 ألف ليرة. وترافقت هذه الفروقات مع إحداث الازمة شرخ في عُرف "وحدة التشريع" بين القطاعين التعليميين في العام والخاص، الذي ظلّ مطبّقاً حتّى عشية الإنهيار في 17 تشرين الأول 2019.
التنصّل من القوانين المرعيّة الإجراء
الإجحاف تمدّد إلى فرض عدد من إدارات المدارس الخاصّة على معلّميها "تسديد الأقساط عن أبنائهم بالدولار الأميركي"، بحسب بيان صادر عن نقابة المعلّمين. "وهو ما لا يعتبر فقط مخالفة للاتفاقيات بين المدراس وبين النقابة، وللقوانين والأعراف المعمول بها، إنّما أيضا لكلّ المبادئ التربوية وحقوق الأستاذ في المدارس الخاصة. وعند مواجهة الأساتذة للإدارات بالقوانين المرعيّة الاجراء التي تعفي الأساتذة من دفع أقساط عن أبنائهم كان الجواب إنّ هذا القانون يطبّق على الأقساط بالليرة، فيما لا يطال الجزء المتبقّي بالدولار النّقدي. هذا العذر يعتبر أقبح من ذنب عدم قانونية فرض الأقساط بالدولار. ويجعل من بعض المؤسّسات التربوية الخاصّة مشرّعاً ذاتياً يرضى لنفسه ما لا يرضاه لغيره.
لا رواتب مهما كانت حالات الإقفال
الأمور لم تقف عند حدود تناقص الرواتب وهزالة بدل النّقل، وزيادة الأعباء، وتبخّر قيمة التعويضات.. بل تخطّتها إلى استدعاء المعلّمين في أكثر من مدرسة خاصة، للتوقيع على كتاب يعفي إدارة المدرسة من أيّ أجر أو بدل أو أتعاب في حالات الإقفال، لأيّ سبب، كالحرب أو التظاهرات أو الإضراب أو انتشار الأوبئة. وهو الأمر الذي يشكّل مخالفة قانونية ترتكبها المدارس بحسب نقيب المعلّمين في المدارس الخاصة نعمه محفوض لثلاثة أسباب رئيسية:
- الأول، مخالفتها القانون العام، وكلّ عقد أو نصّ يخالف القانون يسقط حكماً.
- الثاني، يتعارض مع حقّ النقابة بفرض الإضراب المكفول في القانون بحال عدم توصّلها إلى حلّ في المفاوضات التي تجريها مع المؤسسات التربوية لتحسين ظروف المدرّسين.
- الثالث والأهمّ، إثبات بعض أصحاب المؤسسات ومدراءها انفصالهم عن القضايا الوطنية الكبيرة واهتمامهم بمصالحهم الضيّقة الشخصية. ففي ظلّ بشاعة وعنف الجرائم التي تحصل في غزة، والتي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، ووقوف لبنان على أبواب حرب لا تقلّ ضراوة وخطورة... لا يجد المسؤولون الوقت إلّا لفرض المزيد من الظلم بحقّ المعلّمين وحماية أنفسهم، بدلاً من ابداء التعاطف والتكاتف والتضامن.
لكلّ هذه الأسباب "طلبنا من المعلّمين الذين لم يوقّعوا بعد على مثل هذا الكتاب، عدم الانصياع لرغبات المدارس التي بدأ يكبر عددها ككرة الثلج"، يضيف محفوض. "وقد حذّرنا في بيان إدارات المدارس من مخالفة إجراءاتها للقانون وللعمل التربوي والضمير الوطني. وفي حال استمّرت المدارس بتعنّتها، سنلجأ إلى القضاء، وإذا لم يبتّ القضاء بسرعة بالقضية، سنطلب من المعلّمين الحضور إلى المدارس من دون الدخول إلى الصفوف، ولتجد المدارس من يرضى بشروطها المجحفة".
حقوق المعلّمين المتقاعدين معلّقة
تترافق هذه الإجراءات المجحفة مع ما لا يقلّ سوءاً، ويتمثّل بعدم رفع بدلات الأساتذة المتقاعدين من صندوق نهاية الخدمة. إذ ما زال نحو 5000 موظف متقاعد يتقاضى راتباً تعويضياً شهرياً يتراوح ما بين 15 إلى 20 دولار أي أقلّ من 2 مليون ليرة، فيما يبلغ القسط الشهري الواجب تسديده للضمان الاجتماعي عن كلّ راتب 900 ألف ليرة، تشكّل أكثر من نصف ما يتقاضاه الأساتذة من رواتب تقاعد. أكثر من ذلك يفرض الضمان الاجتماعي غرامة تصل إلى 200 ألف ليرة بسبب التأخير في تسديد المستحقّات، رغم أنّ المشكل تتعلق فيه وليس بالمتقاعدين"، يقول محفوض. "إذ غالباً ما يعجز المتقاعدين عن تسديد المستحقّات بسبب انقطاع الكهرباء في مراكز الضمان، أو عدم توفّر الأوراق، بعد تكبّدهم مشقّة الانتقال وتسديد بدلات النقل لمرات عديدة. وفوق ذلك يفرض عليهم غرامة، مع العلم ان المشكلة من الضمان". وبحسب محفوض فان "تعديل مستحقات الضمان وزيادة التعويضات يتطلبان تشريعا من مجلس النواب. وهو ما يبدو متعذرا قبل انتخاب رئيس للجمهورية. وعليه تستمر المعاناة ولا من يسأل او يهتم أو يشعر بوجع المواطنين".
بدوره تبنّى الاتّحاد العمّالي العام بيان نقابة المعلّمين ومطالبهم الحقّة في ما خصّ التوقيع على كتب تحرمهم مستحقّاتهم في حالات الإقفال. مطالباً "وزيري التربية والعمل بالتدخّل فوراً ومنع هذا الإجحاف، سواء بحقّ المعلّمين خصوصاً أو أهالي الطلّاب والتلامذة عموماً". كما جدّد الاتّحاد موقفه من أنّ "فرض دفع الأقساط المدرسيّة بالدّولار الأميركي، مخالفة فاضحة ومستنكرة وغير مقبولة، وخصوصاً أنّ عدداً كبيراً من هذه المدارس تفرض على الأهل أعباء إضافية مثل اللوازم المدرسيّة والأنشطة اللاصفية وبدل النّقل بالأوتوكار وكلّها بالعملة الصعبة، في حين أنّ قسماً كبيراً من الأستاذة يقبضون رواتبهم بالليرة اللبنانية" وختم داعياً إلى "إيجاد الطّرق القانونية لتصحيح رواتب الأساتذة المتقاعدين في القطاع الخاص، واستصدار التشريعات الضرورية لتصويب دفع اشتراكاتهم في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي التي أصبحت مرتفعة جداً ولا قدرة لهم على احتمالها".
أمام ما تقدم، يظهر أنّ أغلى ما خسره الموظّفون من بعد الأزمة ليس مادّياً، إنّما معنوياًّ. فالأمان الوظيفي أصبح في خبر كان، والاستنسابية في التعامل تنتشر مثل النّار في الهشيم من دون إقامة أيّ اعتبار للقوانين والأعراف. فهل هذا بلد؟!