تطلّ أزمة العجز عن تأمين أدوية الأمراض المستعصية برأسها مع نهاية هذا الشهر
يواصل القطاع الصحّي في لبنان انهياره الدراماتيكي على وقع استسلام المسؤولين للأزمة. أو الأصحّ، إمعانهم بالخراب عن قصد أو جهل. ما يبدو للأصحّاء، ممن لم يكتووا بنار المرض، أنّ أمور القطاع تسير كالمعتاد، ما هو إلّا كارثة في عيون المرضى والمراقبين. فأسعار الاستشفاء نار، والدواء متوفّر حصراً لمن يتقاضى الدولار، والذين يعانون من الأمراض المستعصية مهدّدون بالإعدام البطيء. أمّا المصالح المتّصلة، فتعاند البقاء.
ليس تفصيلا أن "تعمد ثلاثة أرباع الأسر (أي 75 في المئة منها) إلى تخفيض إنفاقها على العلاج الصحّي في العام 2023، مقارنة بنسبة 60 في المئة في العام 2022"، بحسب تقييم منظمة اليونيسف الذي ضم 2090 أسرة لديها طفل واحد على الأقلّ. الأمر الذي انعكس تراجعاً في أعداد نزلاء المستشفيات بأكثر من النّصف في العام 2023. حيث انخفض عدد المرضى من حدود 850 ألف مريض سنوياً في العام 2022، إلى حدود 400 ألف مريض راهناً"، كما تشير أرقام نقابة أصحاب المستشفيات الخاصّة في لبنان.
ربع المستشفيات مهدّد بالإقفال
التراجع الكمّي في أعداد المرضى القادرين على الاستشفاء، بالتزامن مع ارتفاع الأكلاف التشغيلية وتناقص المردود، "وضع ربع المستشفيات على حافّة الإقفال"، يقول نقيب أصحاب المستشفيات الخاصّة سليمان هارون. ولم تعد الفوترة بالدولار، وبحسب سعر صرف السّوق كافية لتغطية الفرق الهائل بين الأكلاف التشغيلية والمدخول. فالنّفقات لم تعد إلى ما كانت عليه قبل الأزمة فحسب، إنّما شهدت ارتفاعاً غير منتظر. وذلك نتيجة ارتفاع كلفة الطّاقة، وتأمين المازوت، وقفز أسعار المستلزمات الطبّية عالميا بين 15 و20 في المئة بين العام 2019 واليوم. أمّا لناحية الإيرادات فقد تدنّت بمقدار النصف، بالمقارنة مع العام 2019، نتيجة تدنّي أعداد المرضى المقيمين، والذين يدخلون الطوارئ لساعات. إذ أصبح من المتعثّر على المجتمع بأفراده ومؤسساته وجهاته الضّامنة الرسمية، تغطية نفقات الطبابة. فهذه الجهات من وزارة صحّة وضمان اجتماعي وتعاونية موظّفي الدولة... كانت قبل الأزمة تغطّي بين 75 و90 في المئة من فاتورة الاستشفاء، لم تعد تغطّي اليوم أكثر من 30 في المئة بالحدّ الأقصى للأعمال الطبّية العادية. فيما يضطرّ المريض إلى دفع ثمن المستلزمات الطبّية المستخدمة في العمليات الجراحية على نفقته الخاصّة بالدولار النقدي.
تصحيح أو انهيار؟
الأزمة المالية التي يعانيها القطاع الصحّي أدّت إلى تعثّر ما لا يقلّ عن 25 في المئة من المستشفيات على صعيد لبنان. البعض يعتبر أنّ الأمر طبيعي ويصف الوضع بـ "التصحيحي". فعلى غرار الكثير من القطاعات، استفاد القطاع الصحي خلال الفترة الماضية من القدرة الشرائية "المزيّفة" للبنانيين، التي وفّرها تثبيت سعر صرف الدولار مقابل الليرة على معدّل وهميّ بلغ 1500 ليرة مقابل الدولار. فتوسّع القطاع افقياً وعامودياً بشكل كبير. حيث تبيّن الإحصاءات وجود أعداد مستشفيات ومراكز طبّية ومختبرات للتصوير الشعاعي والفحوصات المخبرية في لبنان، أكثر من أيّ دولة في العالم بالمقارنة مع حجم البلد وعدد السكان. وللمثال كان يوجد في لبنان قبل الانهيار 67 مركزاً لتمييل القلب، في حين أنّ الحاجة هي لـ 10 فقط. ذلك أنّ المتوسط العالمي هو مركز واحد لكلّ 400 ألف شخص. والأمر نفسه ينسحب على غرف عمليات القلب المفتوح. حيث وجد في لبنان عدد مواز لتلك الموجودة في فرنسا. والأمر نفسه ينسحب على بقيّة الخدمات الطبّية التي كانت متضخّمة بشكل كبير. لكن في المقابل يرى هارون أنّ هذا الواقع سيرتدّ سلباً على العاملين في القطاع من أطبّاء وممرّضين وممرّضات وعمّال فنيين وتقنيين.. وسيؤثّر سلباً على المرضى الذين سيضطرّون للانتقال إلى مناطق أبعد للحصول على الخدمات الاستشفائية. ولذلك تحصل عميات دمج بين المستشفيات الكبيرة وتلك المتعثّرة لتجنب الإقفال. وعلى الرّغم من أهمّية مثل هذه الحلول فإنّها "تبقى ناقصة"، بحسب هارون، "ولا تتعدّى كونها حلاًّ فردياً لا يشكّل حلاًّ عامّاً لكلّ المستشفيات المتعثّرة".
العدد المتبقّي من المستشفيات كافٍ
تشير أرقام الدولية للمعلومات للعام 2020 إلى وجود 165 مستشفى في لبنان، منها 136 مستشفى خاص تضم 12749 سريراً. وفي حال عدم معالجة الأزمة فإنّ العدد سينخفض إلى حوالي 133 مستشفى بين خاص وعام. و"هذا العدد يعتبر أكثر من كاف"، بحسب أحد المصادر، "خصوصاً في حال تحسّن القوّة الشرائية للمداخيل وتفعيل التقديمات الصحّية".
مجزرة جماعية
على صعيد متّصل تطلّ أزمة العجز عن تأمين أدوية الأمراض المستعصية برأسها مع نهاية هذا الشهر، مع نفاد التمويل. فهذه الأدوية باهظة الثمن، ما زالت تؤمن لغاية اليوم من خلال أموال السحب الخاصة - SDR، التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي. وقد تمّ منذ آذار 2022 اقتطاع ما يقرب من 479 مليون دولار من هذه الأموال تشكّل 47.2 من مجمل الاستعمالات، لحساب شراء الأدوية والمستلزمات الطبّية. إلّا أنّه مع مشارفة هذا المبلغ على الانتهاء، وفي ظلّ رفض مصرف لبنان القاطع، تسديد أيّ دولار من أموال المودعين على شكل سلفة لتأمين احتياجات الدولة ومنها الصحية، فإنّ المرضى مهددون بـ"الإعدام الجماعي"، يقول رئيس جمعية "بربارة نصار"، هاني نصار. "فهناك حوالي 100 ألف مريض سرطان في لبنان يتلقّون العلاج. وعلى سبيل الذكر لا الحصر فإنّ العلاجات لسرطان الثدي والرئة التي تطيل حياة المريض في المرحلة الرابعة المتقدّمة تتراوح بين 3000 و9000 دولار. ويمثّل انقطاع هذه الأدوية مجزرة بحق المرضى". وبحسب نصار "لا يوجد دولة واحدة في العالم يستطيع فيها مرضى السرطان تحمّل كلفة العلاجات وهذه مسؤولية الدولة وليست المرضى".
لبنان الذي كان يوماً ما "مستشفى الشرق"، أصبح بحاجة لمن يداويه. والدور التاريخي الذي لعبه على صعيد الطبابة، والتقدّم العلمي والبحثي في الشقّين الأكاديمي والتطبيقي خسره، على غرار بقية الأدوار. ولعلّ أكثر ما يثير الحسرة ليس وقوعه في الازمة، إنّما المعالجة الخاطئة. ألم يكن بالإمكان الاستفادة من مبلغ صندوق النقد الدولي لبناء سياسة صحّية سليمة ومستدامة؟ يجيب مصدر متابع بالإيجاب. "إلّا إنّ الإصلاح يكلّف المنظومة نفوذها وسيطرتها. وهذا ما لا تريده". والنتيجة استمرار الانهيار الحر.