أوقفت قبل يومين سيارة أجرة لتقلّني من فردان إلى الكولا. وعلى عادة أغلبية اللبنانيين الذين سئموا الوقوع في شرك التسعير "المتفلّت"، سألته عن التعرفة. لأتفاجأ برفع السائق المتذمّر علامة النصر. فهمت على الفور أنّها مئتي ألف ليرة. رفعت له "الكفّ المفتوح"، كدلالة على الشكر، وأشحت عنه بانتظار سيارة أخرى. فتسمّر السائق في مكانه ودخل معي بـ "مناقصة"، انتهت بالاتّفاق على سعر مئة وخمسين ألف ليرة. 

هذه الحادثة تتكرّر يومياً بين آلاف السائقين العموميين وعشرات آلاف المواطنين. إذ لم يعد لبدعة "السرفيس"، ذات المنشأ اللبناني، سعر رسمي موحّد يصدر بالاتفاق الضمني بين "اتحادات ونقابات قطاع النّقل البرّي"، بقيادة بسّام طليس، في الشق الغربي لمدينة بيروت، و"النقابة العامة لسائقي السيارات العمومية"، بقيادة مروان فياض، في الشقّ الشرقي من المدينة. والسائقين الذين "كفروا" بممثليهم، اتّفقوا على ما يبدو، ومن دون أن يعلموا على ما يعرف باحتكار القلّة "Oligopoly"، الذي يعنى هيمنة عدد قليل من العارضين على السّوق، وتحكّمهم في سعر الخدمة أو المنتج. "كلّ السائقين يطلبون بداية السّعر الأعلى، والذي يتحدّد عادة على أساس (هيئة) الزبون"، أسرَّ لي السائق في سياق الحديث عن كيفية تحديد التعريفات، "ليصار من بعدها إلى تخفيض السّعر تدريجياً للوصول إلى الحدّ الأدنى". وماذا عن التعرفة الموحّدة؟ "سلّملي عليها"، أجاب السائق، مطلقاً العنان لبوق سيارته منادياً: "عالكولا"، وتابع المسير.

التّعرفة ترتفع بالدّولار

قبل انفجار الأزمة في خريف العام 2019 كانت تعرفة "السرفيس" 2000 ليرة لبنانية، تعادل 1.3 دولار على أساس سعر الصّرف الرسمي 1500 ليرة. وعلى الرّغم من شكوى السائقين من عدم عدالتها، إلّا أنّها كانت تشكّل بالنّسبة للأغلبية مصدراً كافياً للعيش، حتى بعد اقتطاع الأكلاف التشغيلية، كثمن المحروقات، وصيانة السيارة، وتسديد الاشتراكات الشهرية للضمان. ومع بدء انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، أخذت هذه التعرفة بالارتفاع لتصل اليوم إلى ما بين 150 و200 ألف ليرة. وبحسبة بسيطة يتبيّن أنّ الحدّ الأعلى للتعرفة ارتفع بالدولار بنسبة 69 في المئة، من 1.3 دولار، إلى 2.2 دولار على سعر الصرف السوق البالغ 88500 ليرة لبنانية. أمّا الحدّ الأدنى فيعادل بأسعار اليوم 1.7 دولار، ومع هذا هو اعلى بنسبة 30 في المئة عمّا كان عليه في العام 2019.

تقصير المسافة يضاعف الكلفة

ارتفاع كلفة السرفيس لا تقتصر على التعرفة، إنّما على تقصير المسافة التي يقطعها السائق بهذه التعرفة. وهو ما يضاعف فعليا كلفة النقل على الركاب. وحتى إذا سلّمنا جدلاً بالتزام السائقين العموميين بـ "تعرفة الـ 150 ألف ليرة، داخل العاصمة بيروت"، كما وضعتها وتشدّد عليها النقابة العامة لسائقي السيارات العمومية. فإنّ المسافة التي يمكن تجاوزها بهذه التعرفة تركت لتقدير السائق واستنسابيته. فمن الأشرفية على الحمرا مثلاً، لا يقبل السائق بأقلّ من "سرفيسين"، أي 300 ألف ليرة تعادل 3.3 دولار، فيما كانت 1.3 دولار في العام 2019. أما في ما يتعلق بتعرفة "التاكسي" فتركت حرّة بالمطلق وهي تفوق الملايين من منطقة لأخرى.

السّائق على أرض الواقع

على رغم ارتفاع التعرفة، والافتراض منطقياً أنّها أعادت المستوى المعيشي للسائقين على ما كان عليه قبل الانهيار، أو حتّى أحسن، فإنّ "الواقع يخالف التصور"، برأي رئيس "النقابة العامّة لسائقي السيارات العمومية"، مروان فياض. وهذا يعود إلى جملة من الأسباب أهمّها:

- تراجع أعداد الركّاب بالمقارنة مع أعوام ما قبل الانهيار.

- واستفحال ظاهرة "التوك توك" وتطبيقات النّقل الالكترونية سواء كان بالنسبة للسيارات أو حتّى الدراجات النارية.

- المنافسة غير الشرعية من أصحاب النّمر المزوّرة والنّمر البيضاء والسائقين غير اللبنانيين، على نطاق واسع جداً.

- ارتفاع اشتراكات الضمان وانعدام التقديمات.

وبحسب فياض فإنّ "السّائق العمومي يدفع كلّ ستة أشهر ما يفوق الخمسمئة الف ليرة كبدل اشتراكات للضمان الاجتماعي، لكنّه لا يحصل على مقابل بسبب إبقاء تسعيرة الاستشفاء على سعر الصّرف القديم أو أكثر بقليل، كذلك الأمر بالنّسبة للتعويضات العائلية وتسعيرة الأدوية". أمّا بالنّسبة إلى المنافسة غير الشرعية التي يتعرّض لها السائق العمومي، فلم تعد محمولة بأيّ شكل من الأشكال. "فمن أصل 33 ألف نمرة حمراء شرعية، هناك 20 ألف نمرة مزورة"، يقول فياض. ومن أصل 10 آلاف ميني باص شرعي، يعمل 15 ألف بطريقة غير شرعية. وهناك 10 آلاف ماكرو باص تعمل بطريقة غير شرعية من أصل 5000 باص فقط شرعي". أما في ما يتعلّق بالتوك توك، فيقدّر فياض أنّ مجمل العدد الذي يعمل بالنّقل في مختلف المناطق اللبنانية يصل إلى حدود 10 آلاف. وأصحابها يتقاضون ربع ما تتقاضاه السيارة العمومية. كذلك الأمر بالنّسبة للنمر المزورة والبيضاء. وكلّ هذه المخالفات "تأكل من صحن"، من السّائق العمومي وتحرمه من مورد رزقة. فيجد نفسه مضطرّاً لرفع التعرفة لتأمين "بنزيناته" على أقلّ تقدير.

كلفة غياب نقل منظّم لا تقدّر بثمن

المشكلة التي يدفع ثمنها السّائق العمومي، والمواطنين محدودي الدخل على حدّ سواء، تعود بحسب خبير السّير علي الزين إلى "غياب خطّة للنقل ورؤية للقطاع". وعليه فإنّ "غياب خدمات نقل فعّالة تدفع باتّجاه اعتماد 70 في المئة من اللبنانيين على سياراتهم الخاصّة في تنقّلاتهم اليومية. وهو ما يرتدّ سلباً على الوضع الاقتصادي والبيئي والصحّي في لبنان. فقبل الأزمة كانت الفوضى في القطاع تكلّف الاقتصاد 7 في المئة من النّاتج المحلّي، ما بين زحمة سير والتلوث والصدامات المرورية. هذا عدا عن اللامساواة بالتنقّل بين المقيمين، وخسارة المساحات لإنشاء الطّرق، واستنزاف المزيد من العملة الصعبة لاستيراد السيارات من جهة، وما تتطلّب من قطع غيار ومحروقات من الجهة الأخرى، وتقدّر بـ 40 مليار دولار في آخر 20 سنة". أمّا على صعيد الأسر فيلفت الزين إلى أنّ "الانفاق العام على النّقل كان يشكّل 14 في المئة من ميزانيتها، وهو ما يعتبر رقماً مرتفعاً جدّاً، يوازي ما تنفقه الأسر في فرنسا، وذلك على الرّغم من الفرق الشاسع بالخدمات".

التكاليف الباهظة فردياً واقتصادياً لقطاع النّقل ازدادت ولم تنخفض رغم الانهيار. وهو ما يدعو إلى معالجة جديدة وجدّية تقوم على استرداد القطاع من البيروقراطية في الإدارة العامة، وتحفيز الاستثمارات وفتح المنافسة والقضاء على المزور. وبهذه الطريقة تتحدّد الكلفة بقيمتها الحقيقية ويتخفّف الاقتصاد من أكلاف باهظة.