كانت تلهو في حرم مدرستها الصيفيّة، معتقدة أنّها في مأمن من شرّ وجهل وغباء بعض أبناء مجتمعها. تلعب بسلام، بانتظار انتهاء الدوام، ليصطحبها أهلها إلى المنزل من جديد، فتخبرهم كيف قضت يومها، وماذا تعلّمت، وإذا ما كوّنت أصدقاء جدد أم لا. إلاّ أنّ رصاصة عكّرت سلام يومها، وحطّت برأسها الصغير، مستقرّة في مكان حسّاس، سارقة روحها، فأردتها قتيلة، بعد صراع مع الغيبوبة دام لأكثر من 23 يوما، عجز جسدها الهزيل عن مقاومته. انضمّت نايا حنّا، إبنة الـ7 سنوات، إلى قافلة ضحايا الرّصاص الطائش، بسبب رصاصة ناجح يحتفل بشهادته الرّسميّة، التي من المفترض أن تؤهّله للحياة، على حساب حياة طفلة لا ذنب لها سوى أنّها تعيش في "بلد كلّ من إيده إلو".
أهل الضحيّة يلجأون إلى القضاء
وأمام هذا الواقع، تواصل موقع "الصفا نيوز" مع أهل الضحيّة نايا حنّا، وأقاربها الذين رفضوا الإدلاء بأيّ تصريح للإعلام، متكتّمين عن مسار التحقيق مفضّلين أن يبقى سرّيا آملين بالتمكّن من الوصول إلى الحقيقة ومعاقبة المذنب وتحقيق العدالة.
من جهّتها أكّدت مصادر مقرّبة من العائلة في حديثها لموقع "الصفا نيوز" أنّ "أهل الضحيّة يتابعون الملفّ، وهم مستمرّين في القضيّة حتّى النهاية، آملين أن يتمّ تطبيق القانون وأن يتمّ توقيف مطلق النار"، مشدّدة على أنّ "التنسيق مستمرّ مع الجهّات المختصّة على أعلى المستويات".
لائحة الضحايا تطول
نايا ليست الطفلة الوحيدة، بل سبقها كثر، من ضحايا الرصاص الطائش في لبنان، كبارا وصغارا كانوا. فلم ننسَ الفتى أحمد محمد خاروف تلميذ الصّفّ السابع الأساسي الذي نعته إدارة مدرسة البسطة الأولى الرسمية بعد أن وافته المنية جرّاء الرصاص الطائش في أوّل العام 2023.
ولا الطفل السوري خالد الحمد الذي لاقى مصرعه في مخيم للجوء في بلدة مجدل عنجر، في البقاع الأوسط، بعدما أصابته رصاصة طائشة في رقبته، خلال احتفالات النجاح بامتحانات السنويّة لعام 2022، نقل على إثرها إلى مستشفى البقاع، حيث توفّي متأثرا بإصابته. كما أدّى الرصاص الطّائش إلى إصابة أكثر من خمسة أشخاص، بينهم طفلان أيضا، وذلك في كلّ من طرابلس والمنية- الضنية وعكار وصيدا (مخيم عين الحلوة) والبقاع، بالإضافة إلى وقوع أضرار مادّيّة كبيرة في ممتلكات الناس.
كما لاعب فريق الإخاء الأهلي عاليه والأنصار السابق محمد عطوي الذي قضى برصاصة طائشة في رأسه، عام 2020، خلال تشييع أحد ضحايا إنفجار مرفأ بيروت في عين الرمانة. تطلبت إصابته إجراء عملية جراحية دقيقة لإيقاف النزيف دامت ثلاث ساعات، من دون أن يتم استخراجها، قبل أن ينقل إلى العناية الفائقة حيث رقد في غيبوبة فارق من بعدها الحياة. وعطوي ليس الوحيد الذي أصيب برصاصة طائشة، فهناك شخص من آل مشيك أصيب أيضاً برصاصة في كتفه قرب السفارة المصرية، وتم نقله الى مستشفى الزهراء حيث خضع لعملية جراحية هناك.
كذلك الطفل اللبناني أحمد الكردي الذي صمد أسبوعاً قبل أن يموت مُتأثراً بإصابته بـرصاصة طائشة استقرّت في نخاعه الشوكي، خلال إعلان نتائج امتحانات الشهادة الثانوية، في منطقة الناعمة جنوبي العاصمة، عام 2017. وأيضاً ذاك الطفل البناني الذي توفي في الـ2016 من بلدة المرج البقاعية، شرقي لبنان، نتيجة إصابته برصاصة طائشة في رئتيه، وكانت مناسبة الاحتفال هذه المرّة إعلان نتائج الانتخابات البلدية في البلدات المجاورة.
أعداد الضحايا يرتفع والقانون ليس رادعًا
وبحسب إحصاءات "الدولية للمعلومات"، فإنّ "المتوسّط السنوي لضحايا الرّصاص الطائش في لبنان، من خلال البحث في وسائل الإعلام والبيانات الصادرة عن المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي من عام 2013 إلى عام 2023، يبلغ 8 ضحايا و15 جريحاً. فيما أحصت دراسة صدرت في العام 2021، سقوط 81 قتيلا و 169 جريحا بين عامي 2010-2021.
وهذه الأرقام تزداد عاماً بعد عام، على الرّغم من القانون رقم 71-2016 والذي يجرّم إطلاق الرصاص في الهواء في حال أدّى إلى الموت.
قانون نايا
وهنا تجدر الإشارة إلى مشروع قانون معجّل مكرّر تقدّم به النائب أديب عبد المسيح يتعلّق بتجريم إطلاق عيارات نارية في الهواء، أطلق عليه إسم قانون "نايا حنا".
وفي مقارنة بين نصّ القانون الحالي ومقترح عبد المسيح يتبيّن لنا أنّه:
في المادة "أ"، والتي تنصّ على أنّ "كلّ من أقدم لأيّ سبب كان على إطلاق عيارات ناريّة في الهواء من سلاح حربي مرخّص أو غير مرخص به، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من ثمانية أضعاف إلى عشرة أضعاف الحدّ الأدنى الرّسمي للأجور، ويصادر السلاح في جميع الأحوال ويمنع الجاني من الإستحصال على رخصة أسلحة مدى الحياة". تمّ رفع العقوبة من 6 أشهر إلى سنة والغرامة من 8 أضعاف إلى 10، مع عدم حصر نوع السلاح بالسلاح الحربي، وبذلك تلحق العقوبة صاحبها بغضّ النظر عن أيّ نوع سلاح استخدمه لاطلاق الرّصاص.
أمّا في المادّة "ب" والتي تنصّ على أنّه "إذا أدّى الفعل المذكور إلى مرض أو تعطيل شخصي عن العمل مدّة تقلّ عن 10 أيّام، عوقب الفاعل بالحبس من 9 أشهر إلى 3 سنوات وبغرامة من 10 أضعاف إلى 15 ضعف الحدّ الأدنى الرسمي للأجور"، فتمّ رفع عقوبة الحبس من سنتين إلى 3 سنوات والغرامة من 15 إلى 25 كحدّ أقصى.
والتعديل ذاته طرأ على المادّة "ج" والتي تنصّ على أنّه "إذا تجاوز المرض او التعطيل الـ10 أيام قضى بعقوبة الحبس من سنة إلى ثلاث سنوات فضلا عن الغرامة السابق ذكرها"، لترفع عقوبة الحبس من سنة كحدّ أدنى إلى 3 سنوات.
وكذلك عدّلت المادّة "د" التي تنصّ على أنّه "إذا أدّى الفعل المذكور إلى قطع أو استئصال عضو أو بتر أحد الأطراف أو إلى تعطيل أحدهما، أو تعطيل إحدى الحواس عن العمل أو تسبّب في تشويه جسيم أو أيّة عاهة أخرى دائمة أو لها مظهر العاقة الذاتيّة عوقب المجرم بالأشغال الشاقّة المؤقّتة عشر سنوات على الأكثر وبغرامة من 15 ضعفا إلى 20 ضعف الحدّ الأدنى الرسمي للأجور"، لتصبح عقوبة الأشغال الشاقة 10 سنوات على الأقلّ، أمّا الغرامة الماليّة فرفعت لتتراوح بين الـ25 والـ35 ضعف الحدّ الأدنى.
وأخيرا عدّلت المادّة "ه" والتي تنصّ على أنّه "إذا أدى الفعل المذكور في هذه المادة إلى الموت، يعاقب الجاني بالأشغال الشاقّة المؤقتة مدة لا تقلّ عن عشر سنوات ولا تتجاوز الخمسة عشر سنة وبغرامة من عشرين ضعفًا إلى خمسة وعشرين الحدّ الأدنى الرسمي للأجور"، لتصبح العقوبة لا تقلّ عن خمسة عشرة سنة والغرامة من 35 إلى 50 ضعفا الحدّ الأدنى للأجور.
فيما العقوبات ووفق إقتراح القانون الجديد، تطبّق على كلّ من الفاعل، والشريك، والمحرّض، والمسهّل (صاحب مكان إطلاق النار، منظّم المناسبة، مالك السلاح المستعمل، بائع أو مزوّد الفاعل بالطلقات الناريّة...).
المشكلة في تلكّؤ النيابات العامّة والضابطة العدليّة والعسكريّة
ولفهم الأسباب الرئيسيّة التي تحول دون تطبيق أحكام القانون الحالي ومدى الحاجة إلى قانون جديد، تواصل موقع "الصفا نيوز" مع نقيب المحامين سابقاً النائب ملحم خلف، الذي اعتبر أنّ "الثغرات ليست في قلب القانون، بل هي تبرز أوّلا، بتلكؤ النيابات العامّة عن القيام بعملها، وتلكؤ الضابطة العدليّة والعسكريّة خاصّة أمام هذه الممارسات التي أصبحت مستفحلة من دون أيّ عقاب، بسبب إهمال المعنيين لواجباتهم وعملهم، ما يساهم في انتشار هذه الظاهرة أكثر فأكثر".
ولفت خلف إلى أنّ "المسألة لا تتوقّف على مطلقي الرصاص الطائش، فكم من فيديوهات نشاهدها عبر مواقع التواصل الإجتماعي تظهر أشخاصا يتباهون بالسلاح، وبإطلاقهم للنّار. فيما لا أحد من الأجهزة الأمنيّة يتحرّك لتوقيفهم"، راجعاً ذلك لعدّة أسباب منها "أنّ هؤلاء محميين من قبل أصحاب نفوذ، أو لا نيّة لتوقيفهم، أو يقطنون داخل مربّعات أمنيّة تحميهم، وسط فقدان الإرادة لتطبيق القانون".
وشدّد خلف على أنّ "إطلاق الرّصاص الطّائش وإن أدّى إلى موت شخص ما يعتبر جناية، حيث أنّ القانون يقول بسجن مطلق النار لمدّة لا تقلّ عن 10 سنوات. لذلك فإنّ المخالفات يجب أن تذهب بموضوعيّة إلى المحكمة، فيما قانون العقوبات يعاقب الفاعل والمتواطئ وكلّ من يظهره التّحقيق متورّطا".
وعن الثغرات في القوانين يعتبر خلف أنّه "يجب أن تحمي القوانين المخبر، كما يجب أن يتمّ توسيع دائرة المشتبه بهم والتحقيق مع كلّ من يمكن أن يتستّر على الفاعل. فالمرحلة التي وصل إليها البلد دقيقة، والناس لم تعد تستطيع تحمّل المزيد من الظلم والفوضى، وإذا ما تحرّك المعنيّون فسنكون أمام كارثة إجتماعيّة حقيقيّة، في ظلّ تحلّل الدولة".
وانتقد خلف هذه "التقاليد غير المقبولة، التي تدفع بأصحابها لإطلاق النار في الأفراح والأحزان"، سائلا "من أين يستحصل هؤلاء على أسلحتهم؟ في الوقت الذي لا يشرّع فيه القانون اللبناني شراء الأسلحة".
في المقابل رحّبت مصادر قانونيّة في حديثها لموقع "الصفا نيوز" بخطوة عبد المسيح معتبرة أنّ "رفع الغرامة ومدّة السجن قد تكون رادعاً قويّاً يخيف ويمنع بعض مطلقي النار العشوائي من الإبقاء على هذه الممارسات". إلاّ أنّها رأت فيها بعض المظلوميّة لصاحب الملك، "الذي قد يكون مسافراً ولا علاقة له بالحادثة، إلاّ أنّ فكرة توسيع دائرة المشتبه بهم أو من يتحمّل مسؤوليّة الحادثة، قد تصبّ لمصلحة الضحيّة، حيث ستشكّل نوعا من الضغط للكشف عن هويّة الفاعل".
لتبقى العبرة بحسب المصادر " بالتنفيذ، وهنا يأتي دور القوى الأمنيّة والمحاكم في لبنان، بأخذ واجبها على محمل الجدّ، لكشف ملابسات الحادثة، وعدم الرضوخ لأيّ تدخلات سياسيّة قد تؤدّي إلى لفلفة الملفّ"، مضيفة "كما يجب العمل على إلغاء ثقافة القتل، والسلاح، وإطلاق النار العشوائي المتغلغلة في عمق المجتمع اللبناني".
بيع الأسلحة ممنوع في لبنان.. أهلا بالسّوق السوداء
وانطلاقا من سؤال خلف، يتبيّن لنا أنّ موادّ الفصل الرابع، من المرسوم الإشتراعى الذي يحمل رقم 137 تاريخ: 12/06/1959، تناقش شروط حيازة الاسلحة والذخائر والاعتدة وحملها، حيث يظهر في المادّة 24 أنّه "يحظر على أيّ شخص نقل الاسلحة والذخائر، أو حيازتها، المنصوص عليها في الفئة الرابعة في الاراضي اللبنانية، ما لم يكن حائزا رخصة من قيادة الجيش. والرخصة الوحيدة التي يمكن الحصول عليها هي رخصة صيد، وتعطى من قبل قائم المقام ولها شروطها التي تفنّدها المادة 29.
ما يعني أن لا قانون يسمح ببيع الأسلحة على الأراضي اللبنانيّة، وبذلك نستنتج أنّ معظم حاملي الأسلحة وخصوصاً فئة الرشاشات المنتشرة بكثرة، والتي غالباً ما تستخدم لإطلاق الرصاص في المناسبات الحزينة والسعيدة على حدّ سواء، لا يملكون رخصاً لحمل هذا السلاح وبالتالي سلاحهم غير شرعي، ويخضعون للمعاقبة القانونية. حيث تنصّ المادّة الأولى من القانون نفسه بعد التعديل على أنّه "يعاقب بالسجن من ستّة أشهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من ألف إلى خمسة آلاف ليرة أو بإحدى هاتين العقوبتين، كلّ من اقدم بدون رخصة على صنع معدّات أو أسلحة أو ذخائر حربية من الفئات الأربع الأولى أو قطعها المنفصلة أو أقدم على حيازتها أو سرقتها أو التصرّف بها ببدل أو بدون بدل".
فيما تؤكّد مصادر قاونيّة في حديثها لموقع "الصفا نيوز" أنّ "حيازة مطلق الرّصاص العشوائي أو أيّ شخص على سلاح غير مرخّص يعتبر جرم، يصدر عنه بلاغ بحث وتحري بحقّ الفاعل، ويتحوّل الملفّ للمفرزة القضائية لتوقيفه، وإن حاول الفرار أو تمّ حمايته سياسياً، فإنّه يبقى مطلوباً، ويظهر ذلك في كلّ مرّة تطلب نشرته".
الرصاص أرخص من المفرقعات
وبجولة سريعة لموقع "الصفا نيوز" على أسعار الّرصاص في السوق السوداء (إذ أن بَيع الرّصاص محصور فقط بنوادي الرماية) يتبيّن لنا أنّ "سعر رصاصة رشاش كلاشنكوف تتراوح بين الـ0.5 والـ0.75 دولار أميركي، بينما رصاصة المسدس تتراوح بين الـ0.75 والـ1 دولار أميركي حسب عيار الطلقة. في المقابل تبدأ أسعار أرخص المفرقعات من الـ5$ مروراً بالأنواع الأكثر انتشاراً (من 20 - 30 دولار)، بينما يمكن إنفاق آلاف الدولارات على أنواع المفرقعات المختلفة (جبل النّار والهرم) وغيرها من أنواع المفرقعات المستخدمة في المناسبات".
وكما الرصاص، تنتشر الأسلحة في السّوق السوداء، لتلبي حاجة النّاس للسّلاح، والتي لا تنحصر بالعادات العشائريّة التي توارثتها المناطق فقط، بل تعكس قلّة ثقة وخوف وعدم أمان يشعر بهم المواطن اللبناني الذي بات يبحث عن أمنه الذاتي عبر شراء سلاح بحسب قدرته لحماية نفسه وعائلته، وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية والانفلات الأمني وكثرة السرقات وغياب الدور الفعّال للدولة.