تعدّ الحروب من أكثر الأحداث المأسوية تأثيرًا في حياة الأفراد والمجتمعات. ولا تقتصر آثارها على الخسائر البشرية من ضحايا وجرحى، وعلى الخسائر المادية من تدمير للمباني وإلحاق الضرر بالاقتصاد ومستوى المعيشة وفقدان الموارد، بل تتجاوز ذلك إلى الآثار النفسية العميقة التي تتركها في الأفراد كباراً وصغاراً. تتسبّب الحروب في نشوء مجموعة من الاضطرابات النفسية التي تدوم طويلاً، وقد تؤدي إلى مشكلات خطيرة إذا لم يتمّ التعامل معها بفعالية.
تقول المتخصصة في علم النفس، لانا قصقص، لـ "الصفا نيوز" إنّه " في أوقات الحرب، يمرّ الأفراد بمشاعر متعدّدة ومعقّدة تنجم عن التوتر المستمر الناتج عن فقدان الأحبّة والممتلكات، والتعرض للمخاطر الداهمة، وعدم اليقين بشأن هويتهم ومستقبلهم، وعدم معرفة ما سيحدث في اليوم التالي. وتؤدّي هذه العوامل إلى مشاعر مختلطة من الخوف، والقلق، والحزن، والإحباط، والغضب. وتشير الدراسات إلى أنّ مستوى التوتر والخوف يرتفع عند النساء والأطفال أكثر من غيرهم، ويعانون بشكل أكبر من فقدان الأمان خلال الحروب".
المشكلات النفسية في أوقات الحرب
خلال الحرب، تسيطر مشاعر الخوف والقلق والإحباط وفقدان الأمل، إذ يعيش الأفراد في حالة من عدم الاستقرار النفسي. ومن أبرز المشكلات النفسية التي تظهر في أوقات الحرب:
1. اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD):
يُعتبر PTSD من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً في أوقات الحروب، ويصيب الأشخاص الذين تعرّضوا لأحداث عنيفة مثل القصف، أو الذين شاهدوا حوادث مروعة. تظهر أعراضه بشكل قوي لدى الجنود، والعائلات التي تعرضت لمآسي الفقد، والأطفال الذين عايشوا هذه الأزمات. يشعر المصاب بهذا الاضطراب بتكرار استرجاع الذكريات المؤلمة على نحو مستمر، وهذا ما يسبب له القلق والرعب وكأنّ الأحداث تتكرر أمامه من جديد.
وتشرح قصقص أنّ "الـPTSD يندرج تحت إطار الاضطرابات النفسية الطويلة المدى، وهو الأكثر ارتباطًا بالحروب، بالإضافة إلى الاكتئاب والقلق العام. يُعد PTSD الأكثر شيوعًا، خاصة لدى الأفراد الذين تعرضوا لأحداث عنيفة أو كانوا في الخطوط الأمامية. الأشخاص الذين هاجروا، أو نزحوا، أو تعرضوا لأحداث عنيفة، هم الأكثر عرضة للإصابة بهذه الاضطرابات النفسية الطويلة المدى إذا لم يتمكنوا من التعامل مع مشاعرهم في الوقت الراهن. ومن المهم التذكير بأن ليس كل من ينجو من الحرب يُصاب باضطراب ما بعد الصدمة، فالتعامل السليم مع المشاعر يمكن أن يخفف من تطور هذه الاضطرابات".
ماذا عن أعراض PTSD؟ تجيب قصقص "تتركّز حول الكوابيس، والحساسية المفرطة، واسترجاع الذكريات المؤلمة بشكل متكرر، خاصةً تلك المرتبطة بمشاهد الحرب، إضافةً إلى تغيرات كبيرة في المزاج، والشعور بالحزن أو العصبية، وتغيرات في النوم، والتركيز، والأكل، والإجهاد الجسدي، والتعب، وعدم القدرة على ممارسة الأنشطة اليومية بشكل طبيعي، إضافةً إلى حالة اليقظة المفرطة (hypervigilance). تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن نحو 22% من الذين مروا بتجارب الحروب أو النزاعات يصابون باضطراب ما بعد الصدمة".
2. الاكتئاب والقلق العام:
يعيش الأشخاص في أوقات الحرب مشاعر الحزن والاكتئاب بسبب فقدان أحبائهم، أو منازلهم، أو الاستقرار الذي كانوا ينعمون به. قد يعاني الكثيرون من مشاعر اليأس وفقدان الحافز، وعدم القدرة على الاستمتاع بالحياة اليومية. كذلك، يزداد القلق العام بشأن ما قد يحدث في المستقبل، وهذا ما يضيف عبئًا نفسيًا ثقيلًا على الأفراد، ويجعلهم في حالة من التوتر الدائم.
3. فقدان الشعور بالأمان والخوف من المستقبل:
يشعر الأفراد، وخاصة الأطفال، بالخوف الشديد من المجهول، وفقدان الشعور بالأمان بسبب أصوات الانفجارات وانتشار القوات العسكرية في محيطهم. يؤدي هذا إلى حالة من القلق الدائم والحاجة المستمرة للشعور بالحماية، وقد تظهر هذه الحالة من خلال تعلق الأطفال بأفراد الأسرة بشكل أكبر، وشعورهم بالخوف من الانفصال عنهم.
الأعراض النفسية في أوقات الحرب
تختلف أعراض الاضطرابات النفسية بين شخص وآخر، ولكن ثمة بعض الأعراض المشتركة التي يمكن ملاحظتها على نطاق واسع:
1. كوابيس واسترجاع الذكريات المؤلمة:
كثيراً ما يعاني الأشخاص، خصوصاً الأطفال، من كوابيس وأحلام مزعجة تتعلق بمشاهد الحرب التي عايشوها، ويعانون من تكرار الذكريات المؤلمة التي لا يستطيعون نسيانها.
2. الحساسية المفرطة واليقظة الزائدة (Hypervigilance):
يعاني المصابون باضطراب ما بعد الصدمة حساسية مفرطة تجاه أي حركة أو صوت قد يذكرهم بمشاهد العنف، ويبقون في حالة يقظة دائمة، وهذا ما يؤدي إلى إجهاد نفسي وجسدي.
3. تغيرات في المزاج والسلوك:
يواجه الأفراد تقلبات حادة في المزاج، تراوح بين الشعور بالحزن الشديد والغضب، وقد يصبحون عدوانيين أو متوترين لأسباب بسيطة، وهذا ما يؤثر سلبًا في علاقاتهم مع الآخرين.
4. اضطرابات النوم والشهية:
تؤدي الضغوط النفسية إلى صعوبة في النوم أو النوم المتقطع، وقد يشعر الشخص بالإجهاد الدائم. كما تتغير شهية الفرد بشكل ملحوظ. وقد يفقد بعض الأشخاص شهيتهم تماماً، في حين يتناول آخرون الطعام بشكل مفرط كوسيلة للتعامل مع التوتر.
5. ضعف التركيز والذاكرة:
يواجه الأفراد صعوبة في التركيز على مهماتهم اليومية، في العمل أو الدراسة، ويعانون من فقدان الذاكرة على المدى القصير بسبب حالة التوتر المستمرة.
أكثر الفئات تأثّراً بالمشكلات النفسية
تظهر الدراسات أنّ الأطفال والنساء يتأثّرون بشكل أكبر بالضغوط النفسية في أوقات الحروب. فالنساء كثيرًا ما يشعرن بقلق متزايد بشأن سلامة أسرهن، وقد تتضاعف لديهن مشاعر الاكتئاب والقلق. أمّا الأطفال، فيعانون من صعوبة في استيعاب الأحداث، ويفقدون الشعور بالأمان، ويصبحون عرضة لمشكلات نفسية قد تؤثر في تطورهم العاطفي والاجتماعي.
كيفية التعامل مع هذه المشكلات النفسية
يعدّ الدعم النفسي أمراً أساسياً في التعامل مع الآثار النفسية للحروب، سواء من خلال العلاج الفردي أو الجماعي.
في ما يتصل بالعلاج، تقول قصقص "من المهم عدم تجاهل الأعراض، خاصّة إذا استمرّت أكثر من ثلاثة أسابيع بالحدة نفسها أو ازدادت. تتنوع أساليب العلاج النفسي، وأبرزها العلاج المعرفي السلوكي الذي أثبت فعاليته في التعامل مع هذه الحالات عبر العمل على تعديل الأفكار وإدارة المشاعر المرتبطة بالحرب. في الحالات الشديدة، يُنصح بالتوجه إلى طبيب نفسي للحصول على الأدوية المناسبة. كذلك يمكن أن تساهم برامج الدعم الاجتماعي، مثل دعم الأسرة والأصدقاء، في تعزيز الشفاء والتعافي وتقليل آثار الصدمات".
ومن أبرز طرائق العلاج:
1. العلاج المعرفي السلوكي (CBT):
يُعتبر من أنجح العلاجات للتعامل مع اضطرابات ما بعد الصدمة، إذ يساعد الشخص على تغيير الأفكار السلبية المرتبطة بأحداث الحرب، وإدارة مشاعره بطريقة صحية.
2. الدعم الأسري والمجتمعي:
يلعب دور الأسرة والأصدقاء دوراً كبيراً في تخفيف الأعراض النفسية، إذ يوفرون دعماً عاطفياً يجعل الفرد يشعر بالأمان والانتماء.
3. البرامج المجتمعية:
يمكن المجتمعات المتضررة أن تنظم برامج دعم نفسي جماعي للأطفال والأسر المتضررة، وهذا ما يساعدهم على تبادل تجاربهم والشعور بأنهم ليسوا وحدهم.
4. اللجوء إلى العلاج الطبي:
في الحالات الشديدة، قد يكون من الضروري اللجوء إلى الأطباء النفسيين للحصول على الأدوية التي تساعد في تخفيف الأعراض النفسية، وفي تهدئة المريض.
الحروب ليست مجرّد معارك تُخاض في ساحات القتال، بل هي صراعات نفسية يعاني منها الأفراد مدى سنوات طويلة بعد انتهائها. يجب على المجتمعات أن تعي خطورة الآثار النفسية التي تتركها الحروب لدى الأفراد، وأن تسعى لتقديم الدعم اللازم إلى المتضررين من خلال برامج الرعاية النفسية والعلاجية، لضمان عودة الأمان والسلام الداخلي إليهم.