دخل مفهوم الشركات النّاشئة إلى لبنان منذ حوالي الـ10 سنوات، واستطاع اللبنانيون بفترة قصيرة احتلال مناصب متقدّمة في التصنيفات الدّوليّة لأهمّ الشركات النّاشئة في الوطن العربي والشرق الأوسط
تُعرّف الشركات النّاشئة (startups) بالشركات الصغيرة حديثة الولادة، والتي لا تزال في المراحل الأولى من نشاطها. وغالباً ما تحتاج هذه الشركات إلى مصدر تمويل لاستكمال عملها. من هنا تلجأ إلى جذب المستثمرين، عبر إقناعهم بالفكرة وبخطّة التوسّع. وأكثر الشركات الناشئة في أواخر التسعينيات كانت "الدوت كوم" أيّ الشركات التي تنتمي إلى المجال التكنولوجي، والثّورة التقنيّة الحديثة، وطبعاً هذه الشركات تمكّنت من جذب أكبر عدد من الإستثمارات على حساب شركات أخرى متخصّصة بمجالات مغايرة.
الشركات الناشئة في لبنان من نموّ 90% إلى تراجع الصّفقات بـ78%
وقد دخل مفهوم الشركات النّاشئة إلى لبنان منذ حوالي الـ10 سنوات، واستطاع اللبنانيون بفترة قصيرة احتلال مناصب متقدّمة في التصنيفات الدّوليّة لأهمّ الشركات النّاشئة في الوطن العربي والشرق الأوسط، بعد أن تخطّى عدد هذه الشركات الـ2000، محققة نموّاً تراوح بين الـ70 والـ90% في أواخر العام 2018. وقد يعود سبب ذلك النجاح، إلى امتلاك لبنان المقوّمات الرئيسية ليصبح منظومة حيوية ومزدهرة للشركات النّاشئة، مثل المواهب ومنظّمات الدّعم العديدة والمؤسسات التعليمية.
إلّا أنّه وخلال النصف الأوّل من العام 2020، خرج لبنان للمرّة الأولى من فئة المراكز الخمسة الأولى للاستثمار في "الشركات الناشئة" startups في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بانخفاض بلغت نسبته 78% في الصفقات المحقّقة بنتيجة نقص التّمويل والتحدّيات النّاتجة من شحّ الدولار وتداعيات حراك 17 تشرين، وتدابير مكافحة انتشار كورونا، ومخلّفات انفجار مرفأ بيروت. على الرّغم من أنّ الاستثمارات في الشركات النّاشئة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قفزت 35% خلال الأشهر الستّة الأولى من الفترة نفسها، وفقًا لتقرير صادر عن منصة "ماغنيت" Magnitt للتكنولوجيا عبر الإنترنت. وخلص التّقرير إلى أنّ شركات في الإمارات هي التي جمعت الجزء الأكبر من التمويل.
50% من الشركات النّاشئة اللبنانيّة نقلت عملها إلى الخارج
وهو ما أكدّه أيضا تقرير أجراه موقع "عرب نت"، بعنوان: مواجهة العاصفة، حماية الإقتصاد اللبناني الإبتكاري"، والذي كشف أنّ 54.3% من عيّنة الشركات النّاشئة في لبنان التي تمّ استطلاعها نقلت جزءاً على الأقلّ من عمليّاتها إلى الخارج، وتحديداً إلى الإمارات وقبرص، تليهما تركيا والسعوديّة، والأردن وجورجيا ففرنسا. فيما 18% من مجمل الشركات اللبنانيّة النّاشئة، انتقلت بالفعل أو تفكّر بالانتقال إلى الخارج. كما دفعت الأزمة الإقتصاديّة في لبنان نصف الشركات النّاشئة إلى التوسّع في أسواق خارجيّة، نظرا لمحدوديّة السوق اللبناني، وضعف الإستثمارات فيه. فيما القدرة على الإنتقال كانت مشروطة بعاملين: الأوّل، هو امتلاك الشركة النّاشئة منتجا قابلاً للتصدير، الثاني، وجود حدّ أدنى من قوّة الحضور في الأسواق الخارجيّة، وهو ما وجدت فيه معظم الشركات الناشئة، وخصوصاً تلك التي لا تزال في مراحلها لأولى، صعوبة بالتحقيق.
أين ذهب الدّعم المصرفيّ والدّوليّ؟
في المقابل، شهد قطاع الشركات النّاشئة في لبنان اهتماماً واسعاً قبل العام 2019، ترجم بدعم مصرفي ودولي، حيث كان مصرف لبنان قد خصّص تعميماً يحمل الرقم 331، لدعم المجتمع المعرفي والشركات الناشئة عبر قروض ميسّرة دون فوائد لـ7 سنوات، استفادت منه 3 أنواع من الشركات:
1- الشركات الناشئة.
2- حاضنات الأعمال (Incubators) والشركات المسرّعة للأعمال (Accelerators) والتي يكون موضوعها محصوراً بدعم تطوير وإنجاح ونموّ "الشركات النّاشئة" في لبنان عن طريق تقديم الدّعم الإداري وتأمين شبكات العلاقات العامّة والتوجيه والتدريب وإفادتها من المعرفة والخبرة (Know-how) التي تمتلكها بالإضافة إلى تزويدها بمجموعة من موارد الدّعم والخدمات ( مكاتب موارد لوجستية...) و/أو المساهمة فيها.
وتقدم حاضنات ومسرّعات الأعمال المشورة والدّعم للشركات النّاشئة من خلال مجموعة من الخدمات التي تشمل استشارات الأعمال، الإرشاد، ورش العمل التدريبية والمساحات المكتبية. واليوم، يحتضن لبنان 11 حاضنة ومسرّعة أعمال.
ومنها نذكر تفاستركابيتال والتي تعتبر بمثابة حاضنة رقمية للشركات النّاشئة في لبنان. إذ تساعد الشركات النّاشئة في التسريع أو الاحتضان وتقدم الخدمات مقابل أسهم في الشركة الناشئة. وجمعيّة إيدال التي توفّر برامج الإرشاد للشركات النّاشئة إمكانية الوصول إلى مرشدين على الصعيدين المحلّي والدّولي.
3- شركات الـ " Venture Capital" أي الشركات التي يكون موضوعها محصوراً بالمشاركة في رأسمال "شركات ناشئة" في لبنان ترى فيها ومن خلالها إمكانية نموّ وقدرة على تحقيق الأرباح خاصّة عند التفرّغ عن مساهمتها فيها.
كما أنشأت المنظّات الدوليّة، كاليونيسف، والبنك الأوروبي، عدّة مشاريع لدعم الشركات النّاشئة في لبنان. ومنذ أن بدأ البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية أعماله في لبنان استثمر البنك 775 مليون يورو، دعم من خلالها تطوير القطاع الخاص، وتشجيع الطّاقة المستدامة، وتعزيز جودة وفعالية تقديم الخدمات العامّة. وبدعم من الاتّحاد الأوروبي، ساعد برنامج تقديم المشورة للمشاريع الصغيرة في إحداث التحوّل في أكثر من 130 شركة صغيرة ومتوسطة في لبنان.
أمّا اليونيسف وعلى سبيل المثال فطوّرت برنامج "جيل من قادة الإبتكار" بالتعاون مع شركة الاستشارات الإدارية الدولية أوليفر وايمان.
إلّا أنّ المشكلة في الدعمين المصرفي والدولي، كانت بمحدوديّة المستفيدين من هذه البرامج، التي بمعظمها بقيت قيد الكتمان، ولم يتمّ التسويق لها كما يجب. فيما استفاد منها المقرّبون من أصحاب النفوذ والقرار في الجمعيات المحليّة، والمصارف.
المشكلة في الدعمين المصرفي والدولي، كانت بمحدوديّة المستفيدين من هذه البرامج، التي بمعظمها بقيت قيد الكتمان، ولم يتمّ التسويق لها كما يجب. فيما استفاد منها المقرّبون من أصحاب النفوذ والقرار في الجمعيات المحليّة، والمصارف.
تحدّيان أساسيّان يواجهان الشركات النّاشئة في لبنان
أمّا اليوم فتواجه الشركات الناشئة في لبنان تحدّيات عديدة، يفنّد بعضها الخبير التكنولوجي رامز القارا، في حديثه لموقع "الصفا نيوز"، على الشّكل التالي:
أوّلا، انهيار البنية التحتيّة، من انقطاع مستمرّ للكهرباء، وتراجع خدمة الإنترنت مقابل ارتفاع سعرها، وخدمة الإتصالات الرديئة والتي تؤثّر على عمليّات التواصل داخل الشركة، وبين الشركة والخارج. وهذه المشاكل يمكن حلّها عبر تركيب خدمة الكهرباء عبر الطاقة الشمسيّة، إلّا أنّ هذا الحلّ وبالإضافة إلى كونه مكلفاً، فهو غير مستدام خصوصاً في أوقات الطقس الغائم، أمّا الإنترنت فيمكن تأمين الشركة الناشئة أكثر من مصدر لهذه الخدمة (mtc+alfa) بحيث إذا انقطعت الخدمة من المصدر الأوّل يمكن للثاني أن يلبّي، إلّا أنّ هذا الحلّ ليس عمليّاً وهو مكلف خصوصاً للشركات المحدودة التمويل. فيما لجأت بعض الشركات إلى مساحات عمل مشتركة والتي بإمكانها أن تكون بديلاً فعّالاً من حيث التكلفة للمكاتب التقليدية.
ثانيا، التحدّي الأكبر هو لوجستي، وقانوني، من جهّة تسجيل الشركة رسمياً في الدولة، لتحويلها إلى شركة فعّالة، عبر حصولها على سجلّ تجاري. وهو ما يصعب تحقيقه في لبنان، لكونه مشروط بإيداع مصرفي، فيما معظم المصارف اللبنانيّة ترفض فتح حسابات جديدة، والمسألة تحتاج إلى "واسطة" على الطّريقة اللبنانيّة. وإن تحقّق الشرط الأوّل، يجد صاحب الشركة نفسه بمواجهة النظام البيروقراطي في لبنان، وهو معقّد ومرتبط بمعاملات طويلة، ومشلول، بعد تعطّل عمل معظم الإدارات العامّة بسبب الأزمة الإقتصاديّة وعدم حضور الموظفين إلى أماكن عملهم والإضرابات المستمرّة، ما يجعل عمليّة تسجيل الشركة شبه مستحيلة. ما يعرقل عمل الشركات، ويخسّرها آلاف المشاريع، لعدم توفّر قدرة الدفع أونلاين المحصورة بوجود شركة قانونيّة مسجّلة.
ويلفت القارا إلى أنّ "هذه التحديّات، أجبرت أصحاب الشركات النّاشئة على نقل موقعها إلى دول أخرى كدبي، ولو كبّدها الأمر الكثير من التكاليف، للحصول فقط على سجلّ تجاري، ما يحرم خزينة الدولة من الكثير من العائدات، ويهشّل الإستثمارات في الداخل اللبناني. وبالتالي، التحدّي الأكبر يكمن في تأمين ecosystem قانوني يلبّي احتياجات هذه الشركات"، مشيراً إلى أنّ "عدد الشركات الناشئة في لبنان بالقطاع التكنولوجي تراجع من 800 إلى 400 شركة بعد الأزمة، علماً أنّ هذه الأرقام تغطّي فقط الشركات المسجّلة، فيما هناك العديد من الشركت النّاشئة غير المسجّلة رسميّاً والتي تعمل بشكل طبيعي داخل وخارج لبنان دون التصريح عن عملها".
الشركات النّاشئة إلى القطاع الزراعي والسياحي در
في المقابل يعتبر رائد الأعمال هيثم صعب، في حديث لموقع "الصفا نيوز" أنّ "التحديات التي يواجهها قطاع الشركات النّاشئة في لبنان تكمن في:
1-شحّ في المعلومات والأبحاث التي تساعد على اتّخاذ قرارات سليمة.
2-شحّ في مصادر التّمويل ونقص في الحوافز من المصارف والمؤسسات الماليّة.
3-نظام بيروقراطي يستنزف الشركات ويضعف من حركتها وحريتها في العمل.
4-نقص في أصحاب الخبرات والمعرفة بمهارات حديثة تمكّن الشركات من المنافسة في مجال الابتكار.
5-هجرة الأدمغة.
6-ضعف في البنية التحتيّة مثل كهرباء وأنترنت سريع ودائم.
7-ارتفاع الكلفة التشغيليّة وأهمّها كلفة الكهرباء والنّقل والمواد الأولية.
8-فقدان الأمن الاقتصادي واستقرار سعر الصّرف ووضع المصارف مما يؤثّر على ثقة المستثمرين والزبائن الأجانب.
9-ضعف القضاء الذي لا يشجّع على الاستثمار في لبنان، ومخاوف على حماية الملكيّة الفكرية، وغيرها من أبسط الحقوق كالمساواة في المعاملة ودفع الضرائب. إلخ.
وحول التخصّص الغالب على الشركات النّاشئة يقول صعب إنّ "معظم الشركات الناشئة في لبنان تتوجه نحو القطاع الزراعي والسياحي لتوفّر بعض برامج الدعم والتمويل من جهات مانحة. أمّا قطاع التكنولوجيا، فازدهر في السنوات السّابقة وتراجع بعد الانهيار الاقتصادي بشكل كبير، ولكنّه قطاع واعد ويجب دعمه وتشجيعه".
وعمّا إذا كان لبنان بيئة حاضنة للشركات النّاشئة يجيب صعب بأنّ "لبنان مرّ بين الأعوام ٢٠١٥ و ٢٠١٨ بعصر ذهبي للشركات النّاشئة والتكنولوجيا والابتكار، وذلك بدعم من مصرف لبنان من خلال تعميم ٣٣١ والتمويل والدّعم على أكثر من صعيد، وصعدت شركات ناشئة واعدة ولكن تمّ تدميرها وترحيلها بعد الأزمة. أمّا اليوم، فالوضع ليس مشجعاً للشركات النّاشئة ولكن الحاجة إليها كبيرة، ممّا يحفّز رواد الأعمال على المجازفة وتاسيس بعض الشركات بأعداد أقلّ من السابق".
ولم ينفِ إمكانيّة أن يصبح لبنان بيئة حاضنة للشركات النّاشئة "ولكن هذا يتطلّب بعض الوقت، بعد ترتيب الوضع المالي والمصرفي وعودة الدوائر والوزارات للعمل وتسهيل شؤون المواطنين" بحسب تعبيره.
وأَضاف صعب "لتعزيز بيئة الاستثمار في الشركات الناشئة، قمنا بإنشاء منصّة الكترونية لربط المستثمرين الرّاغبين في تشجيع روّاد الأعمال والاستثمار وتملّك حصص في شركات ناشئة وصغيرة ومتوسطة واعدة وتحقيق أرباح بهذه الشركات، مع تأمين خدمات لتحقيق هذه الأهداف بشكل سليم يعطي الثقة للمستثمر والدّعم لرواد الأعمال. هذه المنصة هي قيد الإنشاء وستبدأ العمل قريباً بالتعاون مع جهات فاعلة في مجال الاستثمار والتنمية الاقتصادية".