من مفاجآت الصّيف الحالي ارتفاع نسبة الوافدين حوالي الثّلث عمّا كانوا عليه صيف العام الماضي
شكّل صيف 2023 نموذجاً إضافياً وساطعاً على تشبّث الشعب اللبناني بجناحيه المقيم والمنتشر بأرضه وهويته وتراثه، ومدى استعداده لحماية وطنه من السقوط الكبير.
وكان القدوم الكثيف للبنانيين من متحدّرين من أصل لبناني أو ممّن لا يزالون يحملون الجنسية اللبنانية، بينهم الذين هاجروا قسراً في السنوات والأشهر الأخيرة الدّليل الدّامغ على هذه الحقيقة.
ومن مفاجآت الصّيف الحالي ارتفاع نسبة الوافدين حوالي الثّلث عمّا كانوا عليه صيف العام الماضي، ممّا ارتدّ ازدياداً تلقائياً وبالنّسبة نفسها تقريباً في الحركة والانتاجية والمردود والضخّ المالي والنقدي، سواء في الأسواق أو من باب إعانة الأهل والأقارب ومؤازرتهم.
ومن هذه المفاجآت أيضاً النموّ المتسارع والمستمرّ في السياحة الداخلية والبديلة، والتي يشكّل اللبنانيون مقيمين ومنتشرين 90% منها تقريباً.
ويأتي هذا كلُه على رغم التوتّرات المتفرّقة والغياب شبه التّام للدولة وانعدام الخدمات والتسهيلات والأزمة المستفحلة اقتصادياً واجتماعياً، والتعطيل والفراغ الـذي يجتاح المؤسسات العامّة وفي مقدّمها موقع رئاسة الجمهورية، فقد ارتفع عدد الوافدين إلى لبنان بشكل كبير جداً. ويُسجّل لوزير السياحة وليد نصار وفريق عمل الوزارة الجهد الدؤوب الذي بذل على هذا الصعيد بدءاً من حملة "أهلا بهالطلّة أهلا".
وبتقدير نصّار إنّ عدد الوافدين هذا العام سيزيد حوالي الثّلث عمّا كان عليه العام الماضي. وأنّ هذا التطوّر الإيجابي انعكس بمقدار الثّلث كذلك بالنّسبة إلى حجم الأموال التي تضخّ نقداً في الأسواق والتي قدّرت بحوالي 10 مليارات دولار...وهو ما انسحب على افتتاح مؤسسات سياحيّة جديدة وعلى حجم الاستثمارات والتوظيفات المستحدثة، إلى جانب النشاطات السياحية المختلفة من معارض ومهرجانات وحفلات وأعراس...
ويوضح نائب رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري خالد نزها "أنّ النموّ في الحركة السياحية أفضى إلى خلق حوالي 35 ألف فرصة عمل جديدة في المطاعم هذا الصيف، وإلى حوالي 50 ألف فرصة في كلّ القطاع السياحي".
وبتقدير رئيس نقابة أصحاب ومشغّلي بيوت الضيافة في لبنان رمزي سلمان "إنّ هذا القطاع قد يكون يؤمّن حوالي 10 آلاف فرصة عمل، مع أنّه لم تنجز بعد دراسات أو إحصائيات دقيقة من هذا القبيل".
وبحسب توقّعات صندوق النّقد الدولي ستصل قيمة السياحة الوافدة إلى لبنان عام 2023 إلى 5.5 مليار دولار بينما تقدّر قيمة السياحة الصادرة بحوالي 3 مليارات دولار للعام نفسه. وإذا كانت التّقديرات الرّسمية لتحويلات اللبنانيين من الخارج إلى لبنان تناهز 6.5 مليار دولار سنوياً. فإنّ الرّقم الحقيقي قد يكون مضاعفاً أو أكثر بقليل بما أنّ لبنان دخل الاقتصاد النّقدي "الكاش"، الأمر الذي يجعل من المستحيل بمكان تقدير القيمة الفعليّة للأموال التي تصل إلى اللبنانيين من المنتشرين، الذين ينفقون كذلك على الحركة السياحية وعلى شؤون حياتية واستثمارية واستهلاكية أخرى على سائر الأراضي اللبنانية وعلى مدار السنة، وإن كان لفصل الصيف مع الأعياد حصّة الأسد من هذا القبيل.
ويرى الخبراء أنّ الجمع بين هذه المداخيل وما ينفقه المغتربون في لبنان يسهّل الاستنتاج أنّ مليارات الدولارات دخلت إلى حياة الشّعب اللبناني واقتصاده وأسواقه والأهمّ في ذلك كلّه أنّ هذه الأموال عبارة عن كتلة نقدية أصبحت متوافرة بين أيدي المقيمين.
جدير ذكره أنّ الحركة السياحية والاستثمارية في لبنان صيف 2010 كانت الأفضل في تلك المرحلة، أمّا الصّيف الجاري فهو الأهمّ بعد سقوط بلاد الأرز في أزماته المتلاحقة.
وبين الوافدين هذا الصّيف نسبة لا يستهان بها من الأوروبيين والعرب في طليعتهم العراقيون ثمّ المصريون ثمّ الاردنيون.
ويؤكّد نزها ل"الصفا نيوز" أنّ للصيف الجاري مزايا عدّة إلى جانب ما سبق ذكره، لعلّ أبرزها:
- انتشار الحركة السياحية على مساحة لبنان ساحلاً وجبلاً وبقاعاً.
- عودة الحفلات الفنيّة الكبرى إلى لبنان بعد طول غياب وفي طليعتها حفل الفنان عمرو دياب مساء اليوم السبت في وسط بيروت.
- توسّع السياحة البديلة والداخلية.
- تعزيز الاحتفالات والنّشاطات والمعارض الخاصّة بالمونة والمأكولات والصناعات الغذائية والنبيذ والأعراس.
- عودة المهرجانات المناطقية والدولية.
تجدر الإشارة إلى أنّ كلفة تشغيل المؤسسات السياحية في لبنان هي الأغلى بين الدّول المحيطة، ممّا أدّى إلى ارتفاع الأسعار بشكلٍ لافتٍ، حيث يستحيل عملياً على اللبنانيين غير المقتدرين، وهم أكثريّة ساحقة في لبنان اليوم أن يرتادوا هذه المؤسسات. ومع ذلك كان الإقبال السياحي كثيفاً جداً من قبل حوالي ثلث الشعب اللبناني الذي يترقّب تشكّل طبقة وسطى جديدة داخله، وطبعاً بالإضافة إلى المغتربين والعرب والغربيين الوافدين.
عمليّاً كان القطاع العقاري أقلّ المستفيدين من فورة الصّيف الجاري. وهو ما يردّه العاملون في هذا القطاع إلى عدم الاستقرار والتخوّف من انهيار كبير في السّوق العقاري في حال استمرار غياب الحلول الماليّة والاقتصادية.
في المقابل حضرت وبشكل قوي أنماط جديدة من السياحة، منها السياحة الدينية والتراثية والطبيعية والبيئية وعاد الاهتمام بشكل متجدّد بالسياحة الأثرية التي كانت قبل الحرب من أهمّ أنواع السياحة في لبنان الذي يتمتّع بمقاصد ومواقع أثرية غنيّة بتاريخها ومعالمها، وهي تنتشر من شماله إلى جنوبه وإلى العمق في منطقة البقاع وبعلبك.
وفي هذا الإطار يقول سلمان ل"الصفا نيوز": "إنّ السياحة التقليدية تراجعت مقابل صعود السياحة الداخلية والبديلة التي يشكّل اللبنانيون عمودها الفقري". ويؤكٌد أنّ هذه السياحة فرضت نفسها بقوّة وأدخلت مشهداً جديداً إلى اللوحة السياحية في لبنان.
إشارة إلى أنّ بيوت الضيافة تنتشر على سائر الأراضي اللبنانية ولا إحصاء محدّداً لها. وإن كانت النقابة التي أنشئت أخيراً لهذا القطاع تضمّ حوالي 170 بيتاً مسجلة لدى وزارة السياحة. وفي غضون الأشهر القليلة المقبلة ستطلق منصّة ألكترونية لكلّ بيوت الضيافة على مساحة لبنان ستحتوي على كامل المعلومات والمعطيات اللازمة.
وحسب سلمان فإنّ بيوت الضيافة نمت في السنوات الخمسة الأخيرة حوالي 4 أضعاف. موضحاً أنّ 90% من نزلائها لبنانيون نصفهم مقيمون والنّصف الآخر من المغتربين.
كما أنّ بيوت الضيافة المنتشرة ساحلاً وجبلاً وبقاعاً هي في أساس السياحة الداخلية والبديلة التي خلقت دورة اقتصادية محلّية وازدهاراً مناطقياً لا مركزياً وحجماً كبيراً من الاستثمارات المحلّية وفرص العمل الموسمية أو الدائمة، وهو ما يسهم بإبقاء الإنسان في أرضه، ويعزّز الأمل بغد أفضل ويحدّ من النزوح والهجرة.
في الختام وحسب الأرقام نجح القطاع السياحي هذا العام بتوفير عائد ماليّ لا يستهان به، و"بالدولار الفرش"، انعكس إيجاباً على لبنان، وقد يكون هو الذي وفّر له مظلّة الأمان والاستقرار ولو كان هشّاً، عشيّة نهاية ولاية حاكم المصرف المركزي رياض سلامة وتسلّم نائبه الأول وسيم منصوري المنصب بالوكالة حتى تعيين حاكم أصيل، مع كلّ ما رافق هذا الأمر من تخوّف وخشية من أن ينهار سعرف صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي. مع العلم أنّ نهاية موسم الصيف لا تلغي أن الجميع بانتظار موسم التزلج وهو موسم سياحيّ بامتياز أيضاً.