الإدمان على الاقتراض ليس الحلّ.. ضريبة واحدة قادرة على تأمين ملياري دولار بأقلّ من شهرين
تقول حكمة قديمة إنّ "الدَّين يتمّ سداده دائماً. إن لم يكن من قبل المُقترض، فمن قبل المُقرِض". اللافت في طلب الدولة اللبنانية الاقتراض من المصرف المركزي هو أنّ "المُقرض والمقترض" يمثّلان جهة واحدة، وهي المواطن المغبون. فالتّسليف سيتمّ ممّا تبقّى من أموال للمودعين موجودة في المصرف كتوظيفات إلزامية. والتحصيل سيكون من زيادة الضّرائب على قلّة من اللبنانيين، أو الامعان في التضخّم وضرب القدرة الشرائية، أو حتّى من بيع حصتهم في الملك العام.
في جميع الأحوال فإنّ "المساس بتوظيفات المصارف لدى مصرف لبنان لم ولن يكون الحلّ"، بحسب افتتاحيّة التّقرير الشّهري لجمعيّة مصارف لبنان - آب 2023، بقلم الأمين العام الدكتور فادي خلف. "لا بل سيفاقم الأزمة عوض حلِّها". فكيف تخرج الدّولة، إذاً، من هذه دوّامة الإدمان على الاقتراض، وتبذير الأموال؟
تحقيق الوفر في بنود النفقات
الحلّ يكمن فيما تضمّنته المادّة 91 من قانون النّقد والتّسليف. "إذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، في ظروف استثنائية الخطورة، أو في حالات الضّرورة القصوى، تحيط حاكم المصرف علماً بذلك. يدرس المصرف مع الحكومة إمكانية استبدال مساعدته بوسائل أخرى (...) كإجراء توفيرات في بعض بنود النّفقات الأخرى، أو إيجاد موارد ضرائب جديدة الخ... وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنّه لا يوجد أيّ حلّ آخر، وإذا ما أصرّت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب". المفارقة في الحالة اللبنانية أنّ مجالات التوفير لا تعدّ ولا تحصى وهي تبدأ بإعادة هيكلة القطاع العام، وضبط الإنفاق، ومكافحة الفساد، والاستغناء عن الوظائف الوهميّة، وجحافل المستشارين في الوزارات والمشاريع، وإقفال مزاريب هدر الصناديق، وترشيد الصّفقات وإخضاعها لقانون الشّراء العام.
الموارد الضريبية
أمّا لجهة زيادة عائداتها فحدّث ولا حرج عن موارد وطاقات مهدورة تؤمّن المليارات للخزينة، من دون أن تثقل كاهل المكلّفين الأفراد بالمزيد من الأعباء. "فالموارد التي يمكن للدّولة أن تلجأ إليها لزيادة وارداتها عديدة"، يقول رئيس لجنة حماية حقوق المودعين في نقابة المحامين في بيروت والخبير في الشؤون المالية والضرائبية المحامي كريم ضاهر. "ولاسيّما أنّ الضرائب يمكن تحصيلها بالعملة الأجنبية. ومنها على سبيل الذكر لا الحصر: "إعطاء فترة سماح لمدّة شهر لكل المتخلّفين عن دفع الضّرائب على رؤوس الأموال المنقولة، من أجل تسديد متوجّباتهم. وذلك قبل البدء بتطبيق مفاعيل التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية. وكشف كل المتخلّفين عن السّداد عن السّنوات الماضية. وهذا كفيل بإدخال نحو ملياري دولار إلى خزينة الدّولة في أقلّ من شهر".
ما هو التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية أو المعروف بـ CRS الذي يتحدّث عنه ضاهر:
انضمّ لبنان في العام 2017 إلى المنتدى العالمي للشفافية. ووقّع معاهدتين تتعلّقان بتبادل المعلومات الضريبية غبّ الطلب، وبشكل تلقائي. وتكمن أهمية الاتفاقية الأخيرة بأنّها تسمح للبنان، على قاعدة سنويّة، أن يتلقّى كلّ المعلومات التي تختصّ بحسابات المقيمين على أرضه والمتأتّية من توظيفات رؤوس أموال منقولة، أي الأسهم والسندات والفوائد المصرفيّة. ويتأكّد من أنّ المقيمين على أراضيه ملتزمين بالتّصريح الضريبي وتسديد متوجّباتهم وفقاً للأصول والمبادئ الضريبية.
هذا المسار على أهمّيّته لا يزال متوقّفاً. "فلبنان عالق في المرحلة الثالثة والأخيرة من تطبيق الاتفاقية، التي تفترض تأمينه سلامة وأمن المعلومات التي يتلقّاها"، بحسب ضاهر. "وعلى الرّغم من تحديد خطّة عمل وإقرارها في كانون الأول 2019 بالاتّفاق مع المنتدى الدّولي للشفافية، وافتراض انجازها بفترة زمنية غير طويلة، لم تنتهِ بعد". والسّبب لا يعود إلى تداعيات الانهيار وانعكاسات جائحة كورونا وكلّ الاحداث التي عصفت بالبلاد خلال السّنوات الثلاث الأخيرة، إنّما إلى وجود نيّة واضحة عند المنظومة لعدم إقرارها ووضعها موضع التّطبيق"، برأي ضاهر. إذ ليس من مصلحة المنظومة ولا المشتركين معها أن يظهر ما تملك من حسابات لها أو للأشخاص الذين يدورون في فلكها. وليس من مصلحة المتهرّبين ضريبياً أيضاً إظهار كمّ التّجاوزات. وبالتالي يسعى المسؤولون إلى تأخير تجرّع هذه الكأس المرّة قدر المستطاع".
من شأن تطبيق اتّفاقية التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية تأمين موارد ماليّة كبيرة للخزينة بالعملة الأجنبية. خصوصاً أنّ قانون موازنة العام 2022 سمح بتحصيل الضّرائب بالعملة الصعبة. وتبلغ نسبة هذه الضرائب 10 في المئة على الأرباح ويمكن أن ترفع أكثر في قانون الموازنة أو أيّ قانون آخر. "الأمر الذي يحصّل للخزينة أموالاً كبيرة جداً توفّر عليها الاقتراض من أيّ جهة"، يختم ضاهر.
في الوقت الذي يتوجّب فيه على الدّولة اللبنانية إعادة هيكلة ما عليها من ديون على وجه السّرعة وتحقيق انتعاش اقتصادي دائم، نراها تفعل العكس. فهي تبحث عن المزيد من الاقتراض مع علمها المسبق بعجزها عن الإيفاء. وبصفتها دولة مفرطة بالاستدانة وذات تصنيف ائتماني رديء جدّاً من مختلف وكالات التصنيف، لا تجد حرجاً بطلب المزيد من القروض مع كلّ ما يحمله الإجراء من مخاطر. فعلا صدق من قال "إن لم تستحِ، فافعل ما شئت".