"أو" الشرطية "تصنع" الخوف وتشرّع الفوضى المالية النقدية والاقتصادية

سنعالج على مدار ثلاث مقالات إن كان يجوز لمصرف لبنان إقراض الدّولة من عدمه. وما هي البدائل المطروحة من الزاوية القانونية والنقدية.

اعتادت السّلطة السّياسيّة تغطية فشلها بتهديد لقمة عيش مواطنيها. فكان حرف العطف (أو) الذي يفيد الإبهام أو التشكيك، جاهز دائماً للاستعمال. "تشرّعون استمرار الإنفاق ممّا تبقّى من أموال المودعين في مصرف لبنان"، (أو) "لا رواتب لموظّفي القطاع العام، ولا دواء للذين يعانون من الأمراض المستعصية مع نهاية آب الجاري". إنّها قصّة "إبريق الزيت" التي يتفنّن المسؤولون بقصّها علينا يوميا؛ إن قلنا "نعم" أو "كلّا" نصل إلى النتيجة نفسها: تمويل منظومة فاسدة من أموالنا، ومدخّراتنا أحياناً.. وبالتضخم نتيجة التوسّع بطباعة الليرات في كلّ الأحيان.

للمرّة الأولى، أو قل من المرّات القليلة كي لا نقع بخطأ الجزم، يرفض مصرف لبنان إقراض الدّولة بالدّولار والليرة على حدّ سواء. موقف إشكالي دفع البعض للاعتراض عليه باعتبار أنّ "المركزي" هو "مؤسّسة عامة"، من مسؤولياتها حماية النّقد ودعم الاقتصاد وعدم تعريض الأمن الاجتماعي للانهيار. هذا عدا عن أنّ إصدار النّقد هو امتياز للدّولة. وبرأيهم "من بلع بحر" أكثر من مئة مليار دولار من الخسائر، "لن يغصّ بساقية" ملايين الدّولارات أو تريليونات الليرات لضمان عدم انهيار الهيكل فوق رؤوس اللبنانيين في هذه المرحلة الدقيقة. ويجادل المعترضون بأنّ قانون النّقد والتّسليف يسمح بتأمين متطلّبات الدّولة، أقلّه بالليرة، إذا وضعنا الدّولار جانباً، من دون الحاجة إلى "منّة" أو إلى قانون من مجلس النوّاب يجيز الإقراض.

مبرّرات الإقراض بالليرة في قانون النّقد والتّسليف

ينطلق المدافعون عن استدانة الدّولة من مصرف لبنان من المادّة 88 وما يليها من مواد في قانون النّقد والّتسليف:

- المادة 88 تجيز للمركزي أن "يمنح الخزينة، بطلب من وزير الماليّة، تسهيلات صندوق لا يمكن أن تتعدّى قيمتها عشرة بالمئة من متوسط واردات موازنة الدّولة العادية في السنوات الثلاث الأخيرة المقطوعة حساباتها. ولا يمكن أن تتجاوز مدّة هذه التسهيلات الأربعة أشهر". على أنّ طلب وزير المالية يكون بكتاب. 

- فيما تذهب المادة 89 من القانون المذكور، أبعد من ذلك، وتنصّ على التّالي: "تعطى الحكومة إجازة دائمة تخوّلها اللجوء الى الاستلاف المنصوص عليه بالمادّة السابقة، كلّما تبيّن لوزارة المالية وللمصرف المركزي أن ّموجودات الخزينة الجاهزة لدى هذا المصرف غير كافية لمواجهة التزامات الدّولة الفوريّة. إلّا أنّ هذه الإجازة لا يمكن استعمالها أكثر من مرّة واحدة خلال اثني عشر شهراً".

- أمّا المادة 91 فتستدرك، "أنّه في ظروف استثنائية الخطورة، أو في حالات الضرورة القصوى، إذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي. تحيط حاكم المصرف علماً بذلك (...) وفقط في الحالة التي يثبت فيها أنّه لا يوجد أيّ حل آخر، وإذا ما أصرّت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن المصرف المركزي أن يمنح القرض المطلوب".

انطلاقا ممّا تقدّم، تتوفّر بالقانون كلّ ظروف الاستقراض، فموجودات الخزينة غير كافية والبلد يمرّ بأوضاع استثنائية الخطورة. ولا يوجد حلّ آخر للتمويل. خصوصاً بعدما تقطّعت سبل الاقتراض من الأسواق. فلماذا الاعتراض؟

هل يمكن للدّولة إجبار المركزي على إقراضها وطباعة الليرات لتمويل نفقاتها؟

تنصّ المادة 10 على أنّ إصدار النّقد امتياز للدّولة دون سواها. ويمكن الدّولة أن تمنح هذا الامتياز لمصرف مركزي. فيما تنصّ المادة 47 على "منح مصرف لبنان دون سواه امتياز إصدار النّقد المنصوص عليه بالمادّة العاشرة".

وهناك المادة 69 في قانون النقد والتّسليف التي تحمل خطورة كبيرة في حال الاعتماد عليها لتبرير الإقراض، برأي رئيس لجنة حماية حقوق المودعين في نقابة المحامين في بيروت والخبير في الشؤون المالية والضرائبية المحامي كريم ضاهر. حيث تنصّ أنّه على المركزي "أن يبقي في موجوداته اموالاً من الذهب ومن العملات الأجنبية التي تضمن سلامة تغطية النّقد اللبناني توازي (30 بالمئة) ثلاثين بالمئة على الأقلّ من قيمة النّقد الذي أصدره وقيمة ودائعه تحت الطّلب، على أن لا تقلّ نسبة الذهب والعملات المذكورة عن (50 بالمئة) خمسين بالمئة من قيمة النّقد المصدر". وبالتّالي إذا افترضنا أنّ احتياطي العملات الأجنبية والذهب يبلغ حوالي 26 مليار دولار فهي تعادل على سعر الصرف الرسمي 390 ألف مليار ليرة. وعليه يمكن للمركزي استخدام جزء كبير من هذه الاحتياطيات نظراً لكون الكتلة النقدية بالليرة ما زالت 60 ألف مليار ليرة".

موقف الدولة

في حال استمرّ نوّاب الحاكم في موقفهم المتشدّد بمنع إقراض الدّولة بالليرة والدّولار على حدّ سواء وأمام العجز عن تشريع الإقراض في مجلس النّوّاب لأسباب سياسيّة بالنّسبة للبعض، ونقديّة بالنسبة للبعض الآخر، فإنّ الدّولة من وجهة نظر ضاهر ستكون أمام حلّ من اثنين لتمويل نفقاتها أقلّه بالليرة خصوصاً أنّ إيراداتها لن تكفي لسدّ احتياجاتها.

- سحب امتياز طباعة الليرات من مصرف لبنان والاتّجاه إلى طباعتها على مسؤوليتها.

- احترام الاستقلالية الماليّة والإدارية لمصرف لبنان في حال أبقت امتياز طباعة الّنقود معه. والانصياع لتطبيق قانون النّقد والتسليف الواضح لجهة إعطاء المركزي الخيار بالإقراض من عدمه. فلا يمكن للّدولة من هذه الزاوية إلزام المركزي بإقراضها.

اللافت أنّ "حدس" الحكومة كان قد أنبأها بإمكانية الوصول إلى مثل هذا المأزق مع انتهاء ولاية الحاكم رياض سلامة. فعمدت إلى وضع بند ملتبس على جدول أعمال جلسة 18 نيسان 2023 نصّ على التقدّم بـ "مشروع قانون معجّل يرمي إلى تعديل المادتين 5 و47 من قانون النّقد والتّسليف وإنشاء المصرف المركزي وتعديلاته المنفّذ بالمرسوم رقم 13513 تاريخ 1 آب 1963". وإذا كان من المبرّر تعديل المادة 5 وإعطاء الإذن لمصرف لبنان بطباعة فئات عملة أكبر من 100 ألف ليرة لمواكبة التضخّم. فإنّ ما فهم من تعديل المادة 47 هو وضع الحكومة اليد على إصدار النّقد من دون الرجوع إلى مصرف لبنان.

نتابع في المقال القادم موانع إقراض المصرف المركزي الدّولة بالليرة والدّولار.