بالمختصر المفيد، لم يحن بعد أوان الحلّ اللبناني لدى الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة، ولذلك استعانت بإصدار بيان من شأنه أن يغطّي المرحلة التي ما تزال تفصل عن موعد الحلّ من جهة، ويغطّي على الخلافات السائدة بين أركانها من جهة ثانية.

لم تؤدّ حرارة تمّوز إلى نضوج حلّ الأزمة اللبنانية في "كوز" اجتماع "المجموعة الخماسيّة بشأن لبنان" الثاني في دوحة قطر، فغَلتْ الماء في هذا "الكوز" لكنّها لم تختلط بعضها ببعض لأنّها كانت "ماءات" عدّة مختلطة بزيوت مصالح كلّ من الاطراف الخمسة، والزيت عادة لا يختلط بالماء، بل يطفو فوقه... أو يستقر في القعر تبعاً لسماكته أو لزوجته...

بالمختصر المفيد، لم يحن بعد أوان الحلّ اللبناني لدى الخماسيّة العربيّة ـ الدوليّة، ولذلك استعانت بإصدار بيان من شأنه أن يغطّي المرحلة التي ما تزال تفصل عن موعد الحلّ من جهة، ويغطّي على الخلافات السائدة بين أركانها من جهة ثانية.

فالمجموعة، وبحسب بيانها الختامي، أكّدت أنّها اجتمعت "لمناقشة الحاجة الملحّة للقيادة اللبنانية للتعجيل في إجراء الانتخابات الرئاسيّة، وتنفيذ إصلاحات اقتصادية ضرورية من أجل الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها"، ورأت أنّ "من الأهمية بمكان أن يلتزم أعضاء البرلمان اللبناني بمسؤوليتهم الدستورية، وأن يشرعوا في انتخاب رئيس للبلاد"، مشيرة إلى أنّها "ناقشت خيارات محدّدة في ما يتعلق باتّخاذ اجراءات ضدّ اولئك الذين يعرقلون إحراز تقدّم في هذا المجال". وشدّدت على "أن ينتخب رئيس للبلاد يجسّد النزاهة ويوحّد الأمّة ويضع مصالح البلاد في المقام الأول، ويعطي الأولوية لرفاه مواطنيه، ويشكّل ائتلافاً واسعاً وشاملاً لتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الأساسية، ولا سيّما منها تلك التي يوصي بها صندوق النّقد الدوليّ". كذلك شدّدت على التزام الحكومة تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني، التي تضمن الحفاظ على الوحدة الوطنيّة والعدالة المدنية في لبنان. وكذلك أكّدت المجموعة على استمرار التنسيق بما يصبّ في مصلحة الشّعب اللبناني.

كان متوقّعاً أن لا يخرج اجتماع الدوحة بقرار حاسم وجامع يدفع إلى حلّ الأزمة اللبنانية

والواقع، حسب مواكبين للاجتماع، أنّ المجموعة رمت كرة تعطيل إنجاز الاستحقاق الرئاسي في ملعب الأفرقاء الداخليين طالبة منهم المبادرة إلى انجازه، ملوّحة بفرض عقوبات على المعرقلين (لم تعرف طبيعتها ومدى جدواها ومن هو المعرقل المستهدف بها)، فيما هي تدرك أنّ التعقيد الذي بلغه الاستحقاق بات يتطلّب تدخّلاً خارجياً فاعلاً، وتحديداً منها حتّى يتمّ التوافق على انتخاب رئيس الجمهورية العتيد، حيث أنّ الانقسام الدّاخليّ العموديّ، وحتّى الأفقيّ، يتعاظم يوميّاً ويحول دون حصول هذا التوافق.

غير أنّ ما لاحظه المواكبون، هو أنّ المجموعة الخماسيّة أهملت في بيانها موضوع الحوار الذي جاء الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لو دريان في زيارته الأولى للبنان مستطلعا الآراء لترتيبه، وذلك بناء على اتّفاق مسبق بين فرنسا وبقية أركانها. ويظنّ هؤلاء أنّ المجموعة ربّما تكون أهملت خيار الحوار في ضوء المعطيات التي نقلها إليها لودريان ومفادها أن ليس هناك إجماعاً بين الأفرقاء المعنيين على خوضه، حيث انفرد "التيّار الوطني الحر" وحزب "القوات اللبنانية" في رفضه، فيما أيّده بقية الأفرقاء السياسيين. إلّا أنّ مصير هذا الحوار سيتظهّر في ضوء زيارة لودريان الثانية لبيروت والمرتقبة في 24 من الشهرالجاري.

وكان متوقّعاً أن لا يخرج اجتماع الدوحة بقرار حاسم وجامع يدفع إلى حلّ الأزمة اللبنانية بدءًا بانتخاب رئيس للجمهورية، وفي هذا السياق ذهب أحد السياسيين إلى القول أنّ البيان الصادر عن الاجتماع "جاء سيئاً ولا يعبّر عن روح المسؤولية تجاه لبنان، وإنّما يعبّر عن انخراط في موقع الطّرف في الأزمة، وليس في موقع المتفهّم لها ولظروفها". ويضيف: "لذلك أنّ الأزمة ستطول أكثر فأكثر وربما امتدّت حتى ما بعد الصّيف، ما يجعل الحديث عن الحوار والدّعوة إليه مضيعة للوقت وبلا قيمة".

وعلى رغم من أنّ الموفد الرئاسي الفرنسي سيزور لبنان في 24 من الجاري، فإنّ الشّكوك بدأت تحوم حول إمكان إلغاء هذه الزيارة، إذ كان منتظراً أن ينتقل من الدوحة إلى بيروت، ولكنّه وفي ضوء نتائج الاجتماع آثر العودة إلى باريس، لإطلاع الرئيس ايمانويل ماكرون عليها قبل أن يقرّر خطوته اللاحقة.

على أنّ اللافت، وحسب مطّلعين، أنّ إهمال البيان الخماسيّ لموضوع الحوار جاء على خلفية عدم تأييد واشنطن والدوحة له، وتأكيدهما أن لا حاجة إليه، وأن يصار إلى انتخاب قائد الجيش، الأمر الذي رفضه الجانب الفرنسي في ظلّ صمت سعودي وتريث مصري.

يستمرّ الاميركي في خرق أو في الهرب إلى الأمام من التزام "قواعد الاشتباك" التي فرضها ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل

ولكنّ حقيقة الخلاف بين أركان الخماسي هي، حسب قطب سياسي، أنّ معظمهم "انقلب" مناورة أو تكتيكاً على المبادرة الفرنسية التي انطلقت أساساً بموافقتهم جميعاً، وأنّ الأميركيين هم من يقودون هذا الانقلاب مباشرة أو من خلال القطريين، ومعهم المصريين ضمناً، بخلاف السعوديين الذين يتريّثون ويرفضون اعتماد أيّ خيار قبل أن يستكملوا ترتيب شؤونهم وقضايا أخرى في المنطقة وعلى مستوى علاقاتهم مع سوريا وايران، وهي إن استكملت فسيكونون معها أقرب إلى خيار فرنجية دون سواه، خصوصاً وأنّ الفرنسيين يجارون الرياض في الموقف نفسه.

في هذه الاثناء يستمرّ الاميركي في خرق أو في الهرب إلى الأمام من التزام "قواعد الاشتباك" التي فرضها ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل والذي تمّ بوساطته وبرعاية الأمم المتحدة، فما إن زار وسيطه الذي هندّس هذا الترسيم "عاموس هوكشتاين" في ظلّ حديث عن مشروع لترسيم الحدود البرّية، حتى انقطعت أخباره بعدما تردّد أنّه سيزور لبنان، ليعلن مسؤول في الأمن القومي الأميركي عن أنّه ليس هناك أيّ توجّه لاتفاق وشيك مع إيران على برنامجها النووي. وفي اليوم التالي، دفعت واشنطن ببارجة حربيّة جديدة وطائرات F35 وF16 إلى منطقة الخليج العربي بحجّة منع إيران من التعرّض للسّفن التجارية في مضيق هرمز. وتزامن ذلك مع تجدّد التّصعيد ضد سوريا بدأ يحكمه تصعيد في لبنان، والعين هنا على حاكميّة مصرف لبنان حيث تنتهي ولاية الحاكم رياض سلامة نهاية تموز الجاري في ظلّ رغبة واشنطن أن تكون لها اليد الطّولى في أيّ ترتيب سيتّخذ في هذا الصدد، على اعتبار أنّ سلامة كان أحد رجالاتها القابضين على السياسة المالية اللبنانية منذ أكثر من 30 عاماً.

ومع أنّ المطلوب في رأي سياسي متابع، أن تقدّم واشنطن تسهيلات لإنتاج الحلّ السياسي للأزمة، فإنّها انقلبت على المبادرة الفرنسية التي كانت انطلقت بموافقتها محاولة فرض خيار رئاسي آخر غير فرنجية، كانت البداية مع النائب ميشال معوض المعروف بعلاقته الوطيدة معها، ثمّ بأحد المديرين الكبار في صندوق النقد الدولي الوزير السابق جهاد أزعور، وصولاً إلى قائد الجيش العماد جوزف عون الذي لم يصدر عنه أيّ إعلان ترشيح حتّى الآن. ولقد تبيّن لأحد المرجعيات المسؤولة أنّ واشنطن كادت تفوز بأزعور في الجلسة الانتخابية الأخيرة لو لم يطير نصابها في الدورة الثانية، حيث كانت الأصوات السبعة التي تمكّنه من الحصول على 76 صوتاً شبه جاهزة حتّى بـ"المستلزمات المالية المطلوبة". وهو ما تنبّه إليه الفريق الآخر وفوّت الفرصة على الأميركي وحلفائه في اللحظة الأخيرة. وتأسيساً على هذه الواقعة، يقول قطب نيابي، لن تكون هناك دعوة إلى أيّ جلسة انتخابية رئاسية جديدة إلى أن يكتب الله أمراً كان مفعولا...

وفي سياق متّصل، وما إن انفضّ اجتماع الدوحة حتّى بادرت بعض القوى السياسية الداخلية إلى نسج سيناريوهات حلول وإطلاق تسريبات ليتبيّن لاحقاً أنّ كل هذه المعطيات ليست موجودة، وإنّ الحقيقة الثابتة التي انتهى إليها الاجتماع أنّ أطرافه الخمسة لم يتّفقوا على خيار موحّد لحلّ الأزمة، وترك الباب مفتوحاً لما يمكن أن يحصل من تطوّرات تفرض اجتماعاً جديداً يكون ناجزاً.

وعود على بدء، وفي المختصر المفيد، أنّ الحلّ اللبناني عالق بين تريّث السعودي في انتظار ترتيب بعض التسويات التي تريدها الرياض على مستوى علاقاتها مع دمشق وطهران، وبين انقلاب الاميركي على قواعد اشتباك ما بعد الترسيم البحري الذي يستبطن ضغطاً على إيران في ملفّها النووي وعلى حزب الله وحلفائه في معركتهما دعماً لترشيح فرنجية، ولكنّه انقلاب سينتهي بعد اقتناع واشنطن بعدم جدواه، خصوصاً في محاولتها التملّص من التزاماتها غير المكتوبة التي حصلت بموجبها على هذا الترسيم، لتبقى المبادرة الفرنسية هي الحلّ...