يهدف هذا المقال إلى طرح مُشكلة الكتلة النقدية بالدولار الأميركي في السوق اللبنانية والتي من المتوقّع أن تشهد نقصًا قد يكون حادًا في المرحلة القادمة في ظلّ أيّ تردٍّ للوضعين السياسي والأمني.

أهمّية الكتلة النقدية بالعملة الصعبة وبالتحديد بالدولار الأميركي، تأتي من باب أن حجم استيراد لبنان من الخارج يوازي الـ 75% من الناتج المحلّي الإجمالي وهو رقم كبير جدًا لبلد لا دخل له بالعملة الصعبة إلا من مصادر قليلة، خصوصًا في المرحلة الأخيرة إذ قضت الحرب الأخيرة على آخر هذه المداخيل. وفي ظل غياب الشفافية وفقدان الثقة بالقطاع المصرفي وتفشّي إقتصاد الكاش وتعقيدات الوضع الإقتصادي الحالي، أصبح من شبه المستحيل إحصاء (بدقّة) عدد الدولارات الموجودة في الماكينة الاقتصادية وفي القنوات المالية والمُخبأة في المنازل والشركات.

وقد كان لقرار دولرة الاقتصاد ودفع الفواتير والضرائب بالكاش بالليرة اللبنانية الذي اتخذه الحكومة دورًا داعمًا للطلب على الدولار الذي شهد ارتفاعًا في الطلب عليه بشكلٍ إسّي (Exponentially) منذ إندلاع الأزمة في الربع الأخير من العام 2019.

الزيادة الأسّيّة تعني نموّا يتسارع مع مرور الوقت بشكل أكبر. فبدلاً من إضافة كمّيّة ثابتة في كل مرّة تضاف كلّ مرّة كمّيّة أكبر من تلك السابقة. مثال على ذلك النمو بتضاعف كل يوم.

وبالتالي، يُمكن القول إن سعر الصرف الحالي للّيرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي لا يعكس المُقوّمات الاقتصادية والمالية في البلد بحكم أنّ الدولار أصبح يُستخدم بشكلٍ شبه كامل في الدورة الاقتصادية وهناك أكثر من 90 مليار دولار أميركي ودائع تحت الطلب من شبه المُستحيل تلبيتها.

مرّ لبنان في أصعب مراحله من ناحية تلبية حاجاته من الدولار الأميركي في العامين 2020 و2021 حين استُنزِف احتياط مصرف لبنان بشكل كبير حتى تدّنى إلى ما دون العشرة مليارات دولار أميركي. إلا أنه ومنذ العام 2022 وحتى منتصف عام 2024، شهد لبنان انتعاشًا كبيرًا في الكتلة النقدية بالدولار الأميركي دفعت بالمجتمع الدولي إلى وضع لبنان على اللائحة الرمادية بسبب عدم القدرة على – أو الرغبة في – تبرير مصادر الدولارات الجديدة في الاقتصاد اللبناني.

ومنذ شهر أيلول الماضي وبعد الضربات الإسرائيلية والحصار الجوي والبحري والبرّي ووضع لبنان على اللائحة الرمادية، تراجعت الكتلة النقدية بالدولار الأميركي في السوق ودخل لبنان في مرحلة استنزاف ما تبقى من دولارات في الماكينة الإقتصادية. ولا يُمكن تجاهل الإستيراد الذي بلغ في العام 2024 الـ 15.41 مليار دولار أميركي والذي يُشكّل العبء الأكبر على الكتلة النقدية بالدولار الأميركي في السوق اللبناني خصوصًا أن القطاع السياحي، وهو مصدر أساسي من مداخيل الاقتصاد بالدولار الأميركي، تلقّى ضربة كبيرة بـ 3.7 مليار دولار أميركي خسائر، وأن المصدّرين اللبنانيين يعمدون إلى ترك أموال الصادرات في المصارف الأجنبية بعد فقدان الثقة بالقطاع المصرفي اللبناني.

ولمحاولة معرفة حاجة لبنان للدولارات في المرحلة المُقبلة، نطرح المُعادلة الحسابية البسيطة التالية:

التغيير في مخزون الدولار الأميركي في الماكينة الإقتصادية = التحويلات المالية + إيرادات السياحة + خدمات مُقدّمة إلى الخارج + التحويلات لدى المصارف والصرافين من الليرة اللبنانية إلى الدولار – التحويلات لدى المصارف والصرافين من الليرة اللبنانية إلى الدولار + المساعدات الخارجية + دولارات تعاميم مصرف لبنان + دولارات غير مُحدّدة المصدر – الاستيراد – هروب رؤوس الأموال – خدمة الدين بالدولار.

أضف إلى ما تقدّم، هناك دولارات مُخزّنة في المنازل والشركات (التقديرات تُشير إلى أكثر من 10 مليار دولار أميركي) والتي لم يتمّ أخذها في الإعتبار في هذه المُعادلة نظرًا إلى أن هذه الأموال تُشكّل توازنا خلقه اللاعبون الإقتصاديون بعد أزمة المصارف. أيضًا لم يتمّ أخذ دولارات الإحتياطي الإلزامي (10 مليار دولار أميركي) في الإعتبار إلا نسبيًا من خلال التعاميم على أساس أن هذه الأموال هي أموال المودعين وبالتالي أي مسّ بها يحتاج إلى قانون بحسب ما صرّح به حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري. ولم نأخذ في الإعتبار يضاً أموال المصارف اللبنانية لدى المصارف المراسلة (القابلة للإستخدام) بحكم أنها أموال المودعين (مليارا دولار أميركي).

إنطلاقًا من مُعطيات العام 2023، وضعنا ثلاثة سيناريوهات:

الأول – تشاؤمي ويشمل عدم القيام بأية إصلاحات اقتصادية ومالية وهو ما سيؤدّي إلى أزمة كبيرة ناتجة عن نقص بالدولارات في السوق اللبناني. الجدير ذكره أن هذا النقص بدأ يرخي بثقله على المصارف وعلى مصرف لبنان من خلال العمل على سحب الدولارات المُخزّنة في المنازل والشركات من باب دفع فوائد عالية بالليرة اللبنانية.

الثاني – تفاؤلي ويشمل إنتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة والبدء بإجراء الإصلاحات بعد توقيع اتفاق على برنامج دعم من صندوق النقد الدولي وهو ما سيؤدّي إلى دخول عدة مليارات من الدولارات إلى لبنان.

الثالث – وسطي بين التفاؤلي والتشاؤمي حيث يتمّ ملء الشغور ولكن الإصلاحات لا تأخذ مجراها المفترض.

وينتج من هذه السيناريوهات أن لبنان سيشهد في المرحلة القادمة نقصًا بالدولار الأميركي بما يوازي الـ 4.15 مليار دولار أميركي في ظل السيناريو التشاؤمي، و500 مليون دولار أميركي في ظل السيناريو التفاؤلي، و2.71 مليار دولار أميركي في ظل السيناريو الوسطي.

هذه الأرقام لا تعكس ضخّا للدولارات الموجودة في المنازل والشركات، ولا دولارات الإحتياطي الإلزامي، ولا دولارات المودعين في المصارف اللبنانية الموضوعة في المصارف المراسلة. وكنتيجة حتمّية للسيناريو التشاؤمي أو الوسطي، سيكون هناك عملية تصحيحة تتمثّل بأحد السيناريوهات التالية أو مزيج منها:

أولًا – سيعمد مصرف لبنان إلى زيادة الدفعات للموديعن من أموالهم عبر خفض الإحتياطي الإلزامي؛

ثانيًا – سيتم ضخّ ما يُقارب المليار دولار أميركي من الأموال المُخبّئة لدى اللاعبين الإقتصاديين كردّة فعل على الفائدة 45% على الودائع الطازجة بالليرة اللبنانية؛

ثالثًا – سيتمّ خفض الإستيراد ومعه سترتفع الأسعار نتيجة نقص بعض السلع والبضائع؛

رابعًا – قد يصل نقص الدولار الأميركي إلى مستويات تُلزم الحكومة بدفع رواتب الموظفين بالليرة اللبنانية (10.74 تريليون ليرة أي ما يوازي خمس الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية) أو قسم منها وهو ما سيكون له تداعياته على سعر صرف الليرة اللبنانية؛

خامسًا – قد تزداد عملية التهريب على الحدود نتيجة تردّي الوضع الإقتصادي؛

سادسًا – قسم من الأموال المجهولة المصادر قد تظهر في السوق لتلبية الحاجة الآنية؛

وعليه، فإنّ المنحى التصاعدي للطلب على الدولار هو نتاج السياسات التي تمّ اعتمادها بما فيها دولرة الإقتصاد التي كانت من المفروض أن تكون محدودة في الزمن مع خطّة للعودة عنها. وبالتالي لا يُمكن كسره إلا من خلال الإصلاحات الاقتصادية والمالية والنقدية التي لا يُمكن أن تتمّ إلا من خلال انتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة، والتفاوض مع صندوق النقد الدولي، علّ هذا الأمر يخلق صدمة إيجابية (مصدرها الخليج؟!) تردف الاقتصاد بدولارات أصبح بأكثر حاجة لها.

في المُحصّلة، لبنان في وضع لا يُحسد عليه! وبحسب بعض الخبراء السياسيين الذين استشرناهم، يفوق احتمال السيناريو التشاؤمي بأشواط السيناريو التفاؤلي نظرًا إلى تعدّد المرجعيات الخارجية وتمسّك كل طرف بموافقه، بما يُنذر بحالة صعبة جدًا سيشهدها لبنان في المرحلة القادمة.