الاختلالات الحادّة في سوق القطع ستبقى العنصر المسيطر على الاقتصاد، وعلى أعصاب النّاس على السّواء
الخضّة النقدية التي شهدها لبنان في عطلة نهاية الأسبوع الفائت، ليست الأولى من نوعها كما هو معروف، ولن تكون الأخيرة على الأكيد. "كلام ليل" السّبت الذي هوى بالليرة بنسبة 10 في المئة في غضون ساعات قليلة، لن يمحوه "النّهار" مهما طال. فالاختلالات الحادّة في سوق القطع ستبقى العنصر المسيطر على الاقتصاد، وعلى أعصاب النّاس على السّواء، طالما المعالجات ظرفيّة، لا تعير أيّ أهمية للإصلاحات الجوهرية والهيكلية.
بين الواحدة ظهراً والسابعة مساءً من يوم السبت الموافق 15 تموز، تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدّولار من حدود 90 ألف ليرة إلى مئة ألف. أسباب الارتفاع لم تعرف على وجه الدقّة. البعض ردّها إلى طلب كبير من المصارف لشراء الدولار لتلبية التعميم 158. والبعض الآخر إلى تحويل ما تقاضته شركة مقاولات من ليرات إلى دولارات. فيما القسم الأكبر اعتبرها "prova" بطلب من السّلطة السياسيّة لما قد يحصل في حال توقّف العمل بمنصّة صيرفة. خصوصاً مع ما حمله صباح السّبت من مواقف مندّدة بمنصة صيرفة من قبل نوّاب الحاكم، وعملهم على تغيير آليّات العمل عليها مع نهاية هذا الشهر.
سبب تدهور سعر الصرف
تعدّدت التحليلات والسّبب واحد: طلب كثيف على الدّولار في وقت سريع. فالذي يحصل عادة مع كلّ ارتفاع في سعر صرف الدّولار أنّ "متحكماً أو أكثر بسوق الصّرافة، يملك رصيداً مفتوحاً من الليرات، يطلب من شبكة الصرّافين الشرعيين وغير الشرعيين الذي يعملون معه كمّيّة كبيرة من الدولارات بموعد تسليم سريع، ولكي يحصل على مبتغاه يبدأ بسعر الصّرف تدريجياً لغاية أن يجمع المبلغ المطلوب بالوقت المحدّد"، يقول أحد الصرّافين الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه. "فكلّما رفع الصرّافون سعر صرف الدولار، كلّما زاد عدد الباعة من حملة الدولار والكمّيّات المباعة. إلّا أنّ المثير للريبة بما حصل، هو عودة الدّولار للانخفاض سريعاً، بشكل مخالف للمنطق، ولما كان يحصل في الفترات الماضية. ما يوحي بأنّ أمر عمليّات سياسيّ وليس نقديّ، أتى لرفع سعر الصّرف وتخفيضه". وهذا ما يأخذنا إلى الاحتمال الأخير بارتفاع سعر الصّرف، أو أنّه ضغط سياسي لعدم تغيير آليّات العمل على منصّة صيرفة.
نتائج الخضّة النقديّة
بعيداً عن الفوضى التي أحدثها انخفاض سعر الصّرف الحاد والسّريع في الأسواق، وانتقال محطّات المحروقات للبيع حصراً بالدّولار، فإنّ بعض المضاربين حقّقوا ثروات في غضون ساعات. فمثلاً، من باع 10 آلاف دولار فقط على سعر صرف 100 ألف ليرة (1 مليار ليرة)، حقّق ربحاً فورياً بقيمة 110 ملايين ليرة. وفي حال وضع ما اشتراه من ليرات على منصّة صيرفة، فسيحقّق ربحاً آخر بقيمة 65 مليون. فتكون العشرة آلاف دولار قد عادت عليه بين الصّباح والمساء بحوالي 175 مليون ليرة، أو قرابة 2000 دولار. هذا إذا افترضنا أنّ الرقم 10 آلاف دولار، فكم حقّق من باع بالملايين؟
هذا الواقع الأليم الذي يعمّق التفاوت الاجتماعي، ويعزّز الفساد سيستمرّ طالما الإصلاحات مغيّبة، وأهمها توحيد سعر الصّرف. ولا ينخدع أحد بالاستقرار الذي شهدته الليرة منذ آذار. "فهذا الاستقرار الذي شهدناه في سوق القطع خلال الأشهر الأربعة الأخيرة هو استقرار مرحلي، ناتج عن التدخّل الكثيف لمصرف لبنان على منصّة صيرفة"، يقول كبير الاقتصاديين، ورئيس قسم الابحاث في بنك عودة الدكتور مروان بركات. "وذلك على الرغم من كل ما يساهم به من استنزاف احتياطيات العملات الأجنبية في المركزي. وكأننا نداوي مرض عضال، بمسكّن أوجاع".
الوضع الاقتصاديّ والنّقديّ في البلد أخطر مما نتصوّر، وهو يتطلّب برأي بركات إصلاحات جذرية تحتوي على معالجة العجز التوأم، وهما:
- عجز الماليّة العامّة الذي ينتج عنه خلق النّقد بالليرة وبالتالي تضخيم الكتلة النّقديّة بالعملة الوطنية. وينعكس طلباً مباشراً وغير مباشر على الدّولار.
- عجز الحساب الجاري الذي يستنزف مخزون الدولارات في البلاد.
إنّ الفائدة المحقّقة من صيرفة على المدى القريب، ما هي إلّا خسارة على المدى البعيد
الإصلاحات السياسية والاقتصادية أولاً
وعليه لكي نضبط هذا التفلّت غير المقبول في سوق القطع، والمرشّح دائماً للارتفاع، علينا اتّباع الإصلاحات السياسيّة الاقتصاديّة والماليّة والنّقديّة، القادرة على كبح جماح هذين العجزين، اللذين يتضخّمان باستمرار. والمسار معروف بحسب بركات، وهو "يبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة متجانسة كفؤة وفعّالة قادرة على العمل. من بعدهما يأتي تطبيق الإصلاحات الهيكليّة المطلوبة، والتي يجب أن تقود إلى الاتّفاق مع صندوق النّقد الدّوليّ والحصول على المساعدات الدوليّة. إذا سلكنا هذا الطريق، نكون نحتوي جذريّاً عملية التقلبات في سوق القطع، وإلّا فنحن محكومين بالذهاب إلى مرحلة جديدة بالتدهور بسوق القطع مع الوقت".
لبنان ليس على ما يرام
ما يراه الخبراء يتقاطع مع تصريحات السفراء وآخرهم السفيرة الفرنسية آن غريو، التي قالت في خطبة وداعها إنّ "لبنان ليس على ما يرام. يطيب للبعض أن يعتقدوا اليوم أنّه تمّ تجاوز الأزمة. غير أنّ الّاستقرار الحالي خادع. إذا ما وضعنا جانباً المساعدات الكبيرة التي تقدمّها الجالية اللبنانية والمجتمع الدولي، فإنّ السبب الكامن وراء هذا الّاستقرار الظاهري هو توسّع الّاقتصاد غير الرسمي الذي يتمددّ ويتعمّم". والأمر المقلق بحسب غاريو هو: "أنّ هذا الّاقتصاد يتغذىّ من التّرسيخ المتزايد لعمليّات التبييض وللجريمة المنظّمة التي تنتشر في كافة أنحاء المشرق...". محذّرة من أنّ "النموذج الماليّ والاقتصاديّ للبنان قد بات مُنهَكاً".
على الرّغم من كل الجهود المبذولة، ومحاولات نوّاب الحاكم تصويب العمل على صيرفة في المرحلة المقبلة، وجعلها أكثر شفافية وبمعايير دوليّة فإنّ المضاربة لن تتوقف. فطالما هناك سعر أعلى في السوق الموازي فإنّ أحداً لن يبيع الدولار على المنصّة. وفي حال أحجم المركزي عن ضخّ الدولار، فإنّ عمل المنصّة سرعان ما سيتوقّف. وهذا ما حصل في مراحل عديدة منذ بداية الانهيار. إلّا أنّه في جميع الحالات فإنّ الفائدة المحقّقة من صيرفة على المدى القريب، ما هي إلّا خسارة على المدى البعيد. خصوصاً أنّ ما تدفعه من أموال هو كلّ ما تبقى من حقوق للمودعين في المصارف.