ابتداءً من هذا الأسبوع، سيكون هناك جولات رقابية، احتراماً للمستهلك المقيم أوّلاً، لأنّ راتبه لا يكفيه، ولا إمكانية لديه لتوفير الدّولار. وحماية للمغترب ثانياً، لصون موسم السياحة والاصطياف.
تنحو الإدارة السياسية تاريخياً في لبنان إلى ضبط "تفلّت" الأسعار بالآليات الرقابية والعقابية التقليدية. دوريات، محاضر ضبط، وإقفالات بالشّمع الأحمر "تصحو" على ضجيج النّقمة الشعبية، لتعود وتغطّ في سبات عميق. مرّة تلو الأخرى تنطلق الرقابة من المكان الخطأ، متوقّعة الحصول على نتائج مختلفة. لكن ما لم يصحّ في الماضيين القريب والبعيد، هل يكتب له النجاح في ظلّ هذا الانهيار العنيد؟!
عادةً ما يجد الوزراء، الذين هم على تماسٍ مع الأسواق، أنفسهم مضطرين إلى رفع الصّوت في وجه "شطحات" التّسعير عند التجّار والمؤسسات. وفي هذا الإطار، لم يشذّ المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الاقتصاد أمين سلام، عن هذا السياق. إذ وعد أنّه ابتداءً من هذا الأسبوع، سيكون هناك جولات رقابية، احتراماً للمستهلك المقيم أوّلاً، لأنّ راتبه لا يكفيه، ولا إمكانية لديه لتوفير الدّولار. وحماية للمغترب ثانياً، لصون موسم السياحة والاصطياف.
مرّة تلو الأخرى تنطلق الرقابة من المكان الخطأ، متوقّعة الحصول على نتائج مختلفة
المشكلة ليست تقليدية
انعدام فعاليّة الجولات الرّقابية على الأسواق، لا تنحصر بالاستعراضات الإعلانية، والتبليغ المسبق عن المحطّات التي سـ "يغط" بها المراقبون فحسب، إنّما بإعطائها أملاً زائفاً للمواطنين. المشكلة في لبنان ليست "تقليدية"، تتمثّل في إضافة بعض التجاّر هوامش ربح غير منطقية، لتُحَلّ بالطرق التقليدية، إنّما أعقد بكثير. فهناك أقلّه ثلاثة أسعار صرف: الرسمي، 15 ألف ليرة. صيرفة، 85500. السوق الموازي، 91500. والسعران الأخيران اللذان على أساسهما تتحدّد أسعار السّلع والخدمات، يتغيّران باستمرار. الرسوم والضرائب تُجبى على أسعار صرف مختلفة. ميزانيّات الشركات لم تعد خاضعة للمعايير المحاسبية العالمية. ونسبة كبيرة من المؤسّسات تعمل بالأسود. بمعنى، أنّها لا تصرّح عن فواتيرها الحقيقية. أو تصرّح بأحسن الأحوال بشكل وهمي، ما يسمح لها بتخفيض أسعارها. وبالتالي المنافسة بطريقة غير عادلة مع المؤسسات الشّرعية.
الرقابة الصحيحة، تعطي نتيجة
على الرّغم من كلّ هذه الاختلالات والتعقيدات، "تبقى الرقابة الصحيحة، فعّالة في مواجه فلتان الأسواق"، بحسب ما يؤكّد عضو "المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي"، صادق علوية. فخلافاً لكلّ الادعاءات عن حرّيّة السّوق، وقواعد العرض والطلب التي تكفل تحديد السعر بعدالة، يعتبر علوية أنّه "لا يوجد في لبنان اقتصاد حرّ فعلي، إلّا وفقاً لمبدأ تسلّط كبار التّجّار والمحتكرين على الأسواق، وتحقيقهم نسبة أرباح تخالف النّسبة المسموح بها في قانون المنافسة. والذي يحصل هو أنّه عندما يرفع تاجر سعره، يشكّل فرصة لبقية التجّار لرفع أسعارهم، وليس العكس. فصار كل التّجّار يرفعون أسعارهم بطريقة غير منسّقة أحياناً، ومنسّقة في أحيان كثيرة". والاقتصاد الحرّ برأيه "لا يعني أن يتسلّط التّجّار على المواطنين، إنّما أن يكون للمستهلك حرّيّة الاختيار في سوق حرّ، لا يوجد فيه احتكار قانوني أو فعلي نتيجة الأمر الواقع، كما هو حاصل راهناً في لبنان. وأن يكون هناك حرّيّة تبادل السلع. وتبعاً لهذين المعيارين لا نملك في لبنان اقتصاد حرّ فعلي".
انطلاقاً من هذا الواقع، لا تعود الرقابة على الأسواق انتهاكاً للاقتصاد الحرّ، "إنّما عملًا مطلوباً"، برأي علوية. "لكن ليس أيّ رقابة. فالاستعراضات ومقارنة الأسعار على الرفوف لا تنفع"، من وجهة نظر علوية، والمطلوب السير بخطّين:
- الخطّ الاول، يكون بمراقبة الفواتير عند الاستيراد وعند تسلّم البضائع وعند تسليمها للمواطنين. وبهذه المراحل الثلاث يمكن للرقابة أن تضبط الأسواق.
- الخطّ الثاني، متابعة السجّل التجاري الذي حدّد ضرورة التّنسيق والعمل بين وزارة الاقتصاد ووزارة العدل لمكننة الفواتير. وتطبيق قانون المعاملات الألكترونية الذي صدر بنفس الوقت مع تعديل قانون التجارة البرّيّة، الذي يوجب رقمنة السجلّات التجارية. الأمر الذي يسهّل الرقابة على الأسواق وضبط التلاعب.
انعدام الرغبة في ضبط الأسواق
المشكلة أنّ الرقابة بشقّيها الرقمي، والموضعي على أرض الواقع، لا تتمّ في لبنان. وحتّى أنّ الجهات الرقابية لا تدقّق في الفواتير المزوّرة، ولا في تهرّب التجّار من التصريح للضمان الاجتماعي والماليّة. وممّا يظهر أنّه "لا يوجد رغبة في ضبط السوق. والتّصدّي لمركز القوّة السوقية عند عدد محدود من التجّار، الذين يتعسّفون في استعمال وضعهم المهيمن في السّوق، ما يؤثر على فعالية المنافسة"، بحسب علوية. "ومن يضبط هذه العملية بشكل أساسي هي وزارة الاقتصاد عبر الفواتير الحقيقية، وليس مراقبة السّعر على الرفوف".
قانون المنافسة الغائب الاكبر
الغائب الأكبر عن كل ما يجري يبقى قانون المنافسة. فهذا القانون الذي صدر في آذار 2022 ما زال معلّقاً بانتظار تشكيل هيئة المنافسة. ومن شأن هذا القانون التصدّي للاحتكارات ومراقبة السّوق ومعالجة التركّز الاقتصادي وضمان التنافسية في سوق مفتوحة حرّة، والإشراف على عمليّات السّوق. ويشكّل وضع القانون موضع التنفيذ، "بارقة أمل"، برأي علوية. "إلّا أنّه لا يجوز التحجّج بعدم صدور المراسيم التطبيقية لقانون المنافسة، من أجل ألّا تقوم وزارة الاقتصاد بدورها".
الاختلالات تنسحب على سوق الدواء
ما يجري في سوق السلع الاستهلاكية يجري في سوق الدواء. وعلى الرغم من إقرار السجّل الدوائي ومكننة العمل وتحديد البصمة الدوائية، ما زالت الأدوية المدعومة المتعلّقة بالأمراض السرطانية والمستعصية، تهرّب إلى الخارج، ولا تصل إلى مستحقّيها. وهذا السبب يعود بحسب علوية إلى "عدم وضع المراسيم التطبيقية لـ "الوكالة الوطنية للدواء". وهي الهيئة المنوط بها مراقبة كلّ الملف الدوائي وتولّي التسعير. فلا الوزير ولا اللجان الفنّيّة ولا الموظّفين مسؤولون عن وضع الأسعار ومراقبة السّوق". وبحسب علوية فإنّ "الوزير ما زال يمارس صلاحيّة التّسعير خلافاً للقانون".
في الاقتصاد الحرّ الذي يتمتّع بطلب مرن، لا يمكن للتّاجر رفع أسعاره اعتباطياً، لأنّ المستهلكين يتحوّلون مباشرة نحو منافسيه الذين يبيعون بسعر أرخص. وعليه تتحدّد الأسعار تلقائياً بما يخدم مصلحة المستهلك وتحقيق التّاجر أرباحا معقولة. وبالتالي بدل التركيز على "عصا" الرّقابة الغليظة التي أثبتت فشلها حتّى في الانظمة الموجّهة، يجب على الإدارة السياسية إعطاء الاقتصاد "جزرة" الإصلاحات الاقتصادية، التي تبدأ بتوحيد سعر الصرف وتطبيق قانون المنافسة... بالإضافة إلى بقيّة الإصلاحات المطلوبة.