مشكلة لبنان، حسب ديبلوماسي مخضرم، أنّه يشبه مجلس الأمن الدولي، فهو بلد "الفيتو" وليس بلد التوافق في المطلق، ولكن لا يعالج فيه أيّ شيء في النهاية إلّا بالتوافق بين مكوّناته طائفية كانت أم سياسية.
يجزم مسؤول لبناني كبير أمام بعض زوّاره والمقرّبين أنّ الاستحقاق الرئاسي دخل في نفق طويل لن يخرج منه بسهولة أو في مدى زمني قصير، اللهم إلّا إذا حصلت "معجزة" ما في لحظة سياسية ما، ولكن كلّ المؤشرات المحلية والاقليمية والدولية لا تشي في أنّ للمعجزات مكان في القاموس اللبناني راهناً، لأنّ بعض القوى التي تخوض غمار الاستحقاق الرئاسي إنّما تنطلق من شعار " نكون أو لا نكون" متوهّمة أو مقنعة نفسها بأنّ الفريق المنافس لها يريد إخضاعها وفرض املاءاته ومشيئته عليها.
يقول هذا المسؤول في نظرة تشاؤمية إلى الأوضاع ومستقبلها أنّه "حتى ولو أعلن رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية سحب ترشيحه فإنّه يستحيل أن يتمّ اتفاق بين الأفرقاء السياسين على انتخاب رئيس جمهورية، لأنّ الأزمة ستتحول أزمة نظام، تفرض الذهاب إلى البحث في أصل النظام ومدى الجدوى من استمراره، وعندها ستقع الواقعة بين المتمسّكين بـ"إتفاق الطائف" والدستور الذي انبثق منها وأرسى هذا النظام وبين الداعين إلى تعديله، وآخرين ينادون بمؤتمر تأسيسي يفضي إلى إنشاء نظام جديد في حال ظلّ الاستعصاء والانسداد السياسي على غاربهما...
مشكلة لبنان، حسب ديبلوماسي مخضرم، أنّه يشبه مجلس الأمن الدولي، فهو بلد "الفيتو" وليس بلد التوافق في المطلق، ولكن لا يعالج فيه أيّ شيء في النهاية إلّا بالتوافق بين مكوّناته طائفية كانت أم سياسية.
هذا الواقع، يقول هذا الديبلوماسي، ينطبق الآن على الاستحقاق الرئاسي الذي لن يتم انجازه في نهاية المطاف إلّا بالتوافق، ولذلك فإنّ جولة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان (الذي ضاع موعد عودته تحت وطأة الأزمة الفرنسية الطارئة) لم تغيّر شيئاً في الواقع، المؤيدون لترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية ما زالوا على مواقفهم ويتمسّكون به إلى أقصى الحدود، وليسوا في وارد البحث في بديل منه طالما أنّه مستمرّ في ترشيحه، وهو بدوره مستمرّ حتّى النهاية وليس في وارد الانسحاب. وفي المقابل فإنّ المعارضين لهذا الترشيح ما زالوا على مواقفهم، ويزدادون تشدّداً إلى حدود أنّهم يرفضون أي دعوة إلى الحوار، ما يشي في أنّ الفراغ في سدّة رئاسة الجمهورية قد يقيم لفترة إضافية لا يعرف أحد مداها، رغم الانهيار المريع الذي تعيشه البلاد على كلّ المستويات، على وقع حوادث أمنية متنقّلة كان آخرها الحادثة التي حصلت في منطقة القرنة السوداء الواقعة بين بشرّي والضنّية.
وفي هذه الأثناء تتحرّك العواصم العربية والدولية المهتمّة باحثة عن حلّ لأنّ الانهيار اللبناني السائد والذي إذا تفاقم ليس في مصلحتها، ولذلك تحاول هذه العواصم اختراق الجدار علّها تنجح في تحقيق توافق لبناني ـ لبناني على رئيس جمهورية جديد يقود سفينة الخلاص.
القوى الخارجية لم يعد همّها الحصول على مصالح ومكتسبات في لبنان، وإنّما همّها هو أن "لا يفرط هذا البلد" بفعل داخلي أو خارجي
ويلاحظ الديبلوماسي نفسه أنّ الأزمة بدأت "تتحلحل" شيئاً فشيئاً، وأنّ التقرير الذي أعدّته شركة "الفاريز اند مارسيل" في ضوء التدقيق الجنائي الذي أجرته في حسابات مصرف لبنان، من شأنه أن يحدث تفسّخاً في الحائط المسدود لكل المنظومة السياسية المتورطة في الفساد، ويبدو أنّ الخارج دخل هذه المرّة بقوّة وبزخم كبيرين، مع العلم أنّه في كلّ مرّة يدخل بزخم كبير، وأنّ الدخول الفرنسي في هذا الصدد ليس منفرداً فباريس " مش فاتحة على حسابها"، وإنّما تتحرك بتنسيق مع بقية الجهات الدولية العاملة على خط الأزمة اللبنانية، ولذلك فإنّ بعض القوى السياسية اللبنانية التي تسفّه الحراك الفرنسي وتكثر من اطلاق القنابل الدخانية السياسية في ساحات المنازلة، تدرك أنّ هذا التحقيق الجنائي معطوفاً على تدخل صندوق النقد الدولي سيكشف تورّطها في الانهيار الذي أصاب البلد، ولذلك تنبري إلى دفاع مستميت عن نفسها، بغية ردّ الهجوم المفتوح عليها منذ زمن ولكنه يبدو هذه المرّة أكثر تصعيداً وتركيزاً...
وفي رأي هذا الديبلوماسي المخضرم أنّ القوى الخارجية لم يعد همّها الحصول على مصالح ومكتسبات في لبنان، وإنّما همّها هو أن "لا يفرط هذا البلد" بفعل داخلي أو خارجي، وتحديداً مثلما حصل في الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 عندما اخطأت هذه القوى (التي ادارت الاجتياح مباشرة أو من خلف الستار) في الحسابات فخرجت واسرائيل يومها منه "مبهدلة" لعدم نجاح الاجتياح في تحقيق أهدافها الداخلية والخارجية، فيومها تدخّل الاميركيون والفرنسيون والايطاليون، ولكنهم خرجوا خاسرين الرهان، ولذلك هم الآن لا يريدون تكرار التجربة لأن انهيار لبنان إذا حصل هذه المرّة سيورّطهم في تدخّل أكبر قد لا يفضي إلى نتيجة أفضل من النتيجة التي خرجوا بها بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982. فالولايات المتحدة الاميركية مثلاً لا تستطيع أن تتحمل نشوب حرب مع اسرائيل لأنّ همّها هو أن لا يفرط لبنان الذي يعني لها الكثير مرحلياً واستراتيجياً وثروات قاع البحر المتوسط لها أو لحلفائها خير مثال. ولذلك عاودت العواصم المعنية بلبنان (خصوصاً المجموعة الخماسية العربية الدولية) التوافق على خريطة طريق لحلّ الأزمة اللبنانية، وكلّفت فرنسا العمل على ترجمتها من خلال مهمّة موفدها الرئاسي إلى لبنان، والذي كانت جولته الاستطلاعية الأخيرة على المسؤولين الكبار ومختلف القيادات السياسية والدينية والكتل النيابية الخطوط الأولى لترسيم تلك الخريطة.
على أنّ خريطة الطريق هذه مقدّر لها أن تنتهي إلى عقد طاولة حوار يشارك فيها الجميع وتكون الغاية منها الاتفاق على تسوية تفضي إلى انتخاب رئيس يقبل به الجميع مشفوعاً باتفاق على رئيس حكومة وفريق وزاري قادر على تحمل مسؤولية انقاذ البلاد من الانهيار. والرئيس العتيد المتوقع التوافق عليه سيكون من بين الأسماء البارزة المطروحة، وانّ اختياره سيأخذ في الاعتبار كلّ المعطيات والتطورات الاقليمية الجارية والتي كانت ولا تزال تشكّل التداعيات المباشرة للاتفاق السعودي ـ الايراني، وكذلك لعودة سوريا إلى الجامعة العربية والتطوّر المتسارع في العلاقات بينها وبين المملكة العربية السعودية في ظل اقتناع عربي واجنبي بأن يكون الرئيس اللبناني الجديد على علاقة ممتازة مع سوريا، وهو ما ينطبق على فرنجية الذي كان "التيار الوطني الحر" وحزب "القوات اللبنانية" ولا يزالان يتقاطعان على معارضة ترشيحه بشدّة، فيما يرشح أنّ هناك بعض خيوط التواصل منسوجة معه ولو بحذر خلف الكواليس نظراً لفشل محاولات البعض لتكريس معادلة أنّ اختيار رئيس الجمهورية هو فقط من صلاحية القوى المسيحية الأكثر تمثيلاً وذلك بعد انكشاف الخلفيّات الشخصية والسياسية الضيّقة لمعارضة انتخاب فرنجية. فإذا كان هؤلاء ينكرون لفرنجية تمثيله السياسي والمسيحي، فهل هذا التمثيل يتمتّع به الوزير السابق جهاد أزعور الذي تقاطعوا على ترشيحه في مواجهة فرنجية؟
آخر المعلومات أنّ لودريان غائب عن السّمع منكّبّاً على إعداد تقريره للرئيس ايمانويل ماكرون المنشغل هذه الأيام بمعالجة ما تشهده باريس من احتجاجات وأعمال شغب بسبب مقتل المراهق الجزائري على يد شرطي. فيما مخيّلات بعض السياسيين تنشط في تسويق مضمون متخيّل لهذا التقرير يتلاءم مع مواقفها ومصالحها. لكن عندما سيعود لودريان "يذوب الثلج ويبين المرج"....