لم تغيّر جولة لودريان اللبنانية في الخيارات الرئاسية المعروفة والمعلنة لأيّ من القوى والكتل السياسية والنيابية التي التقاها، ولكنّها فتحت الباب أمام امكانية انعقاد طاولة حوار...
خلاصة جولة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان اللبنانية الاستطلاعية، كانت التوجه إلى عقد طاولة حوار بين القوى السياسية اللبنانية حول الاستحقاق الرئاسي لإنتاج تسوية رئاسية متكاملة، لم يقبل رئيس مجلس النواب نبيه برّي الدعوة إليها لأنّه يعتبر نفسه أنّه بات طرفاً في المعركة الرئاسية، وأحاله إلى البطريرك الماروني بشارة الراعي، الذي بدوره لم يحبّذ ذلك وشجّع (مثل برّي) على انعقاد الحوار في مجلس النواب، معتبراً أنّ رعايته لهذا الحوار ليست من صلاحيته. فيما انبرى بعض أطراف المعارضة وأحزابها وتغييريون إلى الحديث عن عدم جدوى الحوار لأنّه، في رأيهم، "يعطّل" انتخاب رئيس الجمهورية الجديد، ويطيل أمد "الفراغ السياسي المؤسساتي في لبنان" الذي حضّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في لقائهما الأخير على "ضرورة الإسراع في وضع حدّ له"، حسب بيان الرئاسة الفرنسية. ولذلك غادر لودريان لتقديم نتيجة زيارته لرئيسه وللرياض والدوحة وبقية عواصم المجموعة الخماسية، ليعود في تموز المقبل "علّ ماء الاستحقاق الرئاسي تغلي في الكوز" وتنتج اقتراحات عملية للحل المنشود، والبعض قال بإمكان دعوة القوى السياسية إلى مؤتمر حوار في باريس أو الرياض أو الدوحة، ولكن أجواء لودريان لم تحسم المكان لأنّه يتركه على همّة "اللقاء الخماسي"
لم تغيّر جولة لودريان اللبنانية في الخيارات الرئاسية المعروفة والمعلنة لأيّ من القوى والكتل السياسية والنيابية التي التقاها، ولكنّها فتحت الباب أمام امكانية انعقاد طاولة حوار بعضهم أيّدها والبعض الآخر لم يحبّذها، لأنّ كل من المتحاورين المفترضين يتمسّك بموقفه غير المستعدّ للتراجع عنه، خصوصاً أنّ بعضهم يعتبر أنّه يخوض "معركة وجودية" ضد هذا المرشح الرئاسي أو ذاك.
يتصرف كلّ فريق على أنّ قراره حرّ ومتجرّد من أيّ خلفيات خارجية، لكن الواقع هو غير ذلك
يتصرف كلّ فريق على أنّ قراره حرّ ومتجرّد من أيّ خلفيات خارجية، لكن الواقع هو غير ذلك، فالجميع يضمر بنحو أو آخر أنّه ينتظر "الوحي" ممن يمونون عليه، إن لم نقل أولياء نعمته، الذين يخوضون مفاوضات شاقّة بينهم وبين آخرين تتجاوز لبنان إلى قضايا إقليمية يبحثون عن حلول لها قبل الإفراج عن "كلمة السر" اللبنانية الموعودة. ولقد كان لودريان صريحاً خصوصا مع القوى المعارضة لترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، في أنّه لا يمكن انتخاب رئيس جمهورية جديد لا يقبل به "الثنائي الشيعي" وخصوصاً حزب الله، وهو ما سمعه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ورئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل من حاضرة الفاتيكان وفرنسا، بل أنّ كلّ من تواصل مع الفاتيكان وباريس سمع الأمر نفسه، بعضهم جاهر به والبعض الآخر كتمه ويعمل على استيلاد ظروف تفرض على المعنيين الانزياح عنه، ويتصدّر هؤلاء التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية اللذين يجدان في وصول فرنجية إلى رئاسة الجمهورية تهديداً لمستقبلهما السياسي، بل أنّ باسيل وصل به الأمر إلى حد القول أنّ معركته لإسقاط ترشيح رئيس تيار "المردة" هي "معركة وجودية".
ولذلك يقول بعض من التفاهم لودريان، أنّ التعقيدات التي تعوق إنجاز الاستحقاق الرئاسي تتمثّل تحديداً بـ"التيار" و "القوات" وأنّ ما تبقّى من معارضات لفرنجية فهي، في رأي مؤيده، "قابلة للتذليل"، وهي معارضات مؤقّتة يستبطن أصحابها انتظاراً لتطوّرات إقليمية إيجابية هي من تداعيات الاتفاق السعودي – الإيراني والحديث عن اتفاق قريب سيحصل على الملفّ النووي بين إيران والولايات المتحدة الاميركية. وكذلك على مستوى التطوّر الإيجابي المتلاحق على صعيد العلاقات السعودية – السورية، فضلاً عن التطورات المرتقبة على صعيد إنهاء الأزمة اليمنية.
واذا كان بعض القوى، يضيف هؤلاء المطّلعون، ينتظر موقفاً سعودياً ما ليبني على الشيء مقتضاه، فإنّ التطوّرات والمواقف المعلنة وغير المعلنة، تشير إلى أنّ الجانب السعودي لم يجد بعد أنّ الوقت حان لكشف أوراقه، ولذلك هو يحافظ عليها إلى أن يكشفها بعد جلاء نتائج التحرّكات الاقليمية المتّصلة بتداعيات اتفاقه مع إيران، والتحرّكات الدولية المتّصلة بالملفّ النووي الإيراني، وكذلك المتّصلة بما يدور من تواصل بينه وبين الولايات المتحدة الأميركية التي تحاول إقناعه بالتطبيع مع إسرائيل، بينما هو يتمسّك بشروط كبيرة اعترف الإسرائيليون بأنّها قاسية ولا يقبلون بها، علماً أنّ الشرط السّعودي الأساسي للسّير في أي تطبيع هو قبول إسرائيل بمبادرة السلام العربية، التي كان أطلقها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز في قمّة بيروت عام 2002.
ويكشف المطلعون أنّ الفرنسيين وفي سياق لقاءاتهم المعلنة وغير المعلنة والتي عقدوها ويعقدونها مع عدد من القيادات السياسية اللبنانية ومنها فرنجية وباسيل، كانوا وجهوا دعوة لرئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع لزيارة باريس، ولكنّه لم يلبّها، من دون تقديم أي تبرير للجانب الفرنسي الذي عرف لاحقاً السبب وبطُل عنده العَجَب...
ولكن مع ذلك، لا يهمل الفرنسيون الموقف المسيحي من الاستحقاق الرئاسي، ويتماهون مع مقولة عدم الإتيان برئيس تحدّ للمسيحيين، ولكنّهم في الوقت نفسه لا يجدون في فرنجية الذي يعرفونه جيداً وأيّدوا ترشيحه عام 2016 مرشّح تحدّ للقوى السياسية المسيحية التي ثبت للجانب الفرنسي الداري بـ"شعابها" أنّ معارضتها لترشيحه تنطلق من مصالح سياسية مسيحية ضيقة، وليس من كون أنّه لا يمتلك التمثيل المسيحي الوازن، وأنّه ينتمي إلى "محور الممانعة" أو إلى "المنظومة"، في حين أنّ هذه القوى كانت ولا تزال جزءًا من هذه المنظومة مهما تغيّرت الظروف السياسية في البلد، فهي شاركت منذ عشرات السنين في حكومات هذه المنظومة، وبالتالي لا يمكنها نكران هذا الأمر الذي ينطبق على "الفريق الآخر" أيضا الذي بدوره لا يمكنه القول أنّه لا ينتمي إلى هذه المنظومة، أو أنّ هذه المنظومة شريفة وعفيفة خالية من الفساد والخطايا في حق الشعب اللبناني.