من مجرّد إغراء يهدف إلى تحفيز الموظفين للعودة إلى أعمالهم، تحوّلت مضاعفة رواتب القطاع العام سبعة أضعاف، ورفع بدل النقل اليومي إلى حدود نصف مليون ليرة إلى حقيقة. الخطوة غير المحسوبة الأكلاف بدقّة، تتطلّب التوقّف عندها مالياً، ودراسة انعكاساتها على وضع الموظفين بشكل خاص، والأوضاع الاقتصادية بشكل عام. فكيفية استجابة الاقتصاد للمتغيّرات قد لا تكون سريعة فحسب، إنما معاكسة للتوقعات. وذلك لارتباطها بمجموعة من العوامل غير المحسوبة ومن خارج السياق.
يقدّر إجمالي الإنفاق بالدولار الأميركي في الموازنة اللبنانية لتمويل الزيادة الأخيرة على رواتب موظفي القطاع العام بحوالي 400 مليون دولار سنوياً. ويستند هذا الرّقم إلى سعر الصّرف البالغ 86300 ليرة للدولار على منصّة صيرفة. وعليه يجب أن تؤمّن موازنة 2023 إيرادات تفوق 600 مليون دولار هذا العام، إذا أردنا استمرار العمل بموازنات تقشّفية يذهب 80% من إيراداتها على الرّواتب والأجور. أمّا في حال الانصياع للإصلاحات المطلوبة، فيجب أن تزيد الحكومة من الانفاق على الشأن الاجتماعي والاستثماري، وتخفيض حصّة الرواتب من إجمالي النفقات. وعليه يجب أن تكون الإيرادات العامّة بحدود مليار دولار. وهذه هي الاستحالة الأولى. خصوصاً في ظلّ تعمّق الاقتصاد النقدي، ووقوع ما لا يقلّ عن نصف الأعمال في الاقتصاد الأسود المتفلّت من أيّ تصريحات حقيقية للمالية.
فك وحدة التشريع مع القطاع الخاص
من جهة ثانية أحدثت الزيادات المعطاة لموظّفي القطاع العام، والتي لن تحتسب بالمناسبة من ضمن تعويضات نهاية الخدمة، شرخاً مع القطاع الخاص، ولا سيّما لجهة بدل النّقل. فصحيح أنّ القطاع الخاص قد عمد إلى رفع الحدّ الأدنى للأجور بمقدار 13 ضعفا تقريباً، من 675 ألف ليرة إلى 9 ملايين ليرة، إلّا أنّه يرفض رفضاً قاطعاً زيادة بدل النّقل إلى 450 ألفا عن اليوم الواحد. ويتّفق أرباب العمل على أنّ الزيادة القصوى التي يمكن أن يحصل عليها العمّال هي 30 ألف ليرة إضافية، ترفع بدل النقل اليومي من 95 ألفا إلى 125 ألف ليرة.
هزالة الزيادات بالنسبة للمتقاعدين
ستترافق مضاعفة الرواتب أربع مرات مع تخفيض سعر الصّرف على منصّة صيرفة بمقدار 1.4 مرّة من 60 ألف ليرة إلى 86300. وهو الأمر الذي سيخفّض استفادة شريحة المتقاعدين التي تتقاضى أقلّ من مليون ليرة إلى حدود 300 ألف ليرة، تعادل فعلياً مبلغاً يتراوح بين 3 و5 دولارات بحسب سعر صرف السوق. والجدير ذكره أنّ الزيادة المعطاة ستتآكل كلّياً في حال تجاوز سعر الصّرف 120 ألف ليرة، وهو أمر ممكن أن يحصل في غضون أيام قليلة في حال توقف مصرف لبنان عن التدخّل بائعاً للدولار بأحجام كبيرة على منصّة صيرفة.
تحسين المستوى المعيشي، ولكن!
في جميع الحالات من المتوقّع أن "تساعد زيادة الأجور على تحسين المستوى المعيشي للموظّفين العموميين الذين يعانون من الأزمة الاقتصادية"، برأي الباحث في الاقتصاد السياسي البروفيسور بيار خوري. "ومع ذلك، فمن المحتمل أيضًا أن يضيف إلى المشاكل المالية. فالعواقب الاقتصادية لزيادة رواتب الموظفين العموميين في لبنان معقّدة ومتعدّدة الأوجه". وقد يترتّب عليها بحسب خوري مجموعة من النتائج المباشرة وغير المباشرة ومنها:
- زيادة الإنفاق الحكومي: ستضيف زيادة الأجور إلى عجز ميزانية الحكومة المرتفع بالفعل. قد يؤدّي ذلك إلى مزيد من طباعة النّقد، مما قد يكون له تأثير سلبي على الاقتصاد.
- زيادة التضخّم: من المرجّح أن تؤدي زيادة الأجور إلى زيادة التضخّم، حيث تقوم الشركات بنقل التكاليف المرتفعة عبر زيادة الضرائب والرسوم لتمويل زيادات الأجور إلى المستهلكين. وهذا ما قد يصعّب على المستهلكين تحمّل كلفة الضروريات الأساسية، ويمكن أن يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية.
- انخفاض النموّ الاقتصادي: يمكن أن تؤدي زيادة الأجور إلى تقليل النمو الاقتصادي، حيث قد تقلّ احتمالية قيام الشركات بالاستثمار وتوظيف عمّال جدد إذا كانت تكاليفهم ترتفع. وقد يؤدّي هذا إلى ارتفاع معدلات البطالة وضعف الاقتصاد.
- زيادة عدم المساواة: ستفيد زيادة الأجور الموظفين في القطاع العام، ولكن من المرجّح أن يكون لها تأثير أقلّ على الفقراء والضعفاء. قد يؤدّي هذا إلى زيادة عدم المساواة في لبنان.
أمّا لجهة السؤال إن كانت هذه الزيادة سترتدّ سلباً على سوق القطع، فيعتبر خوري أنّ ذلك مستبعد، وذلك بالنظر إلى ما يشهده لبنان خلال هذا الصيف من عرض واسع للعملات الأجنبية من قبل السيّاح والمغتربين. وهو سيؤجّل الأثر المحتمل للعجز في الموازنة بسبب زيادة الأجور على سعر الصرف. ناهيك عن زيادة عبء الضرائب وأثرها في تكوين قاعدة مادية قد لا تتطلّب طبع النّقد راهنا أو في المستقبل. من دون أن ينفي ذلك من وجهة نظر خوري أنّ "الخوف الحقيقي هو الضغوط التضخّمية المصاحبة لزيادة الأجور دون زيادة الإنتاجية".
خلافاً لما يعتقده البعض وينظّر به في العلن، في أنّ الزيادات على رواتب القطاع العام لن تزيد الاقتصاد غرقاً. فالاقتصاد غارق أصلاً في الانهيار. ولا فرق إن كان الغرق على عمق نصف متر أو عشرات الأمتار. لكن الحقيقة أنّ هذه الزيادات لن تفيد الموظفين. فبدلاً من تطويق الأزمة بعوامات الإصلاحات، للمساعدة في إخراج البلد والمواطنين من يمّ الفوضى، "نثقّلها" أكثر بالإجراءات الخبيثة التي تحلّ الأزمة بالتضخّم وتذوب الودائع في القطاع المصرفي.