السؤال الذي يطرح نفسه: ما مصير هذه الزيادات في حال لم تقرّ الموازنة في الحكومة أو مجلس النواب؟ وكيف تكتب هذه الاعتمادات في قطع الحساب؟ وبأيّ خانة توضع؟
عاد البرلمان لـ "ينام" ملء جفونه عن شوارد التشريع بعد إقرار الزيادات على رواتب الموظّفين، تاركاً الاقتصاد يتخبّط جرائها و"يخترب". قلّةٌ من النوّاب الذين حضروا الجلسة التشريعية المخصّصة لفتح اعتمادات استثنائية في موازنة لم "تولد" بعد، اهتمّوا بمصادر التمويل وانعكاساتها. فصدّقوا على قانونين هجينين، متناسين تجربة الزيادة المريرة على الأجور في العام 2017، وما لحقها من إضافات "غبّ طلب" غياب الإصلاحات على الرّواتب في سنوات الانهيار العجاف، وما سبّبته من ويلات.
بتاريخ 19 حزيران 2023 أقرّ مجلس النوّاب اقتراحي قانونين، الأول يرمي إلى فتح اعتمادات في موازنة العام 2023 بقيمة تناهز 37410 مليار ليرة. وذلك من أجل تمويل التعويض المؤقّت للعاملين في القطاع العام بمقدار سبعة أضعاف، مع رفع بدل النقل من 95 ألف ليرة إلى 450 ألفاً عن اليوم الواحد. والثاني يرمي إلى فتح اعتماد بقيمة 265 مليار ليرة لتغطية نفقات إعطاء حوافز مالية وبدل نقل لأساتذة الجامعة اللبنانية.
الضياع سيد الموقف
الغوص في بحر الأرقام لسبر غور الحقيقة، يميت أيّ "غطّاس" مهما امتلك من براعة وإمكانات. فالحكومة كانت قد تقدّمت في جلسة 18 نيسان الفائت بمشاريع قوانين ترمي إلى فتح اعتماد بقيمة تناهز 22778 مليار ليرة من أجل تمويل الرواتب وإضافاتها، وبدل النقل. فيما تقدمت بمشروع مرسوم يرمي إلى إعطاء سلفة بقيمة 150 مليار لصندوق تعاضد الأساتذة في الجامعة اللبنانية. ونظراً لعدم دستورية تقدّم حكومة تصريف الأعمال بمشاريع قوانين، استلم الدفّة النواب: الياس بو صعب، سجيع عطية، علي حسن خليل، جهاد الصمد، وبلال عبد الله، وتقدّموا باقتراح قانون لفتح اعتماد يناهز 37500 مليار ليرة للموظفين، و265 مليار ليرة للجامعة اللبنانية. فتضاعفت الأرقام بين ليلة وضحاها، هذا مع العلم أنّ الكلفة الفعلية للرواتب وزياداتها، قدّرت بحسب "بلوم إنفست" بـ 70 ألف مليار ليرة في السنة. أو ما يعني قرابة 41 ألف مليار ليرة للأشهر السبعة المتبقية من العام.
عدم دستورية فتح اعتمادات بموازنة غير موجودة
التضارب الكبير في الأرقام يقود إلى حقيقتين أخطر بما لا يقاس، وتتمثّلان في: "عدم دستورية فتح اعتمادات في موازنة 2023. وعدم وجود مصادر مستدامة حقيقية وآمنة للتمويل"، بحسب النائبة غادة أيوب. "فالاعتماد على نصّ المادة 12 من قانون المحاسبة العمومية، التي تجيز فتح اعتمادات إضافية أو استثنائية في موازنة غير مقرّة، تفترض أنّ الموازنة منجزة ولم تقرّ بعد من قبل مجلس النواب. وليس أنّه لا يوجد موازنة في الأساس. فوزارة المالية لم تنتهِ بعد من إعداد مشروع موازنة 2023، حتى أنّها لم تحدّد بعد سعر الصّرف التي ستعتمده، ولم تحلها بعد إلى المناقشة في مجلس الوزراء". وعليه فإنّ "فتح اعتماد، بموازنة غير موجودة أصلاً، يعتبر مخالفة دستورية قابلة للطعن. ويشكّل تطاولاً غير مسبوق على قانون المحاسبة العمومية، وعلى الدستور الذي ينظّم الصرف على أساس القاعدة الاثنتي عشرية بحسب المادة 86 منه"، برأي أيوب. "وهي مخالفة لم نشهد مثيلاً لها في كلّ مراحل التخبّط في الفترات السابقة".
الاستخفاف يبلغ مداه
أما لجهة التمويل فيتضمّن قانون فتح اعتماد بقيمة 37.4 ألف مليار ليرة بنداً ينصّ على أنّ "الاعتمادات المفتوحة تغطّى بزيادة تقدير قسم واردات في موازنة 2023 وفقاً لما يلي:
قسم الواردات:
الجزء 2: الواردات الاستثنائية.
الباب 5: القروض المعقودة من الدولة لصالح الخزينة.
الفصل 56: القروض الداخلية.
البند 561: سندات خزينة داخلية.
الفقرة 56101: القروض الداخلية.
مصادر التمويل هذه "غير حقيقية"، من وجهة نظر النائبة أيوب. "حيث لا يوجد عاقل سواء كان فرداً أو مؤسسة يمكن أن يكتتب بسندات دين حكومية. ما يعني العودة إلى طباعة الليرات لتمويل الزيادات. وهو ما يؤدّي إلى موجة جديدة من التضخّم وارتفاع الأسعار تُفقد الغاية من هذه الزيادة في وقت قريب جداً، وتعيد الرواتب إلى أقلّ مما كانت عليه راهناً حتى قبل الزيادة".
والأمر نفسه ينسحب على قانون فتح اعتماد إضافي بقيمة 265 مليار ليرة لمصلحة الجامعة اللبنانية. حيث ستتأمّن الإيرادات بحسب القانون من الواردات الاستثنائية والقروض الداخلية. والمفارقة أنّ الاعتماد المقرّ بقيمة 2.8 مليون دولار بحسب سعر صرف السوق، لا يشكّل أكثر من 6 في المئة من المبلغ المستحقّ للجامعة اللبنانية من عائدات فحوصات الـ PCR من "الميدل إيست". و"أليس من الأجدى تحصيل هذا المبلغ بدلاً من مخالفة الدستور وإرهاق الخزينة بالمزيد من الأعباء"، تسأل أيوب.
الشعبوية في تغطية المخالفات
اقتناع بعض النواب بإمكانية تغطية النفقات الباهظة من الدولار الجمركي، وتسويق الفكرة، على غرار ما حصل البارحة خارج قاعة مجلس النواب يدلّ على استخفاف في عقول المواطنين. وهذا ما أثبتته أرقام شهر كانون الأول الماضي. حيث لم ترتفع الإيرادات الجمركية بأكثر من ٣ أضعاف في الوقت الذي ارتفع فيه الدولار الجمركي 10 أضعاف من 1500 ليرة إلى 15000 ليرة. وبحسب المعطيات فإنّ كمّية الواردات بدأت بالانخفاض بشكل كبيرة جدا مع وصول سعر الدولار الجمركي إلى 60 ألف ليرة في نيسان الفائت. وهذا ما بيّنه تراجع استيراد السيارات الجديدة بنسبة 51،7 في المئة مقارنة مع نيسان 2022. حيث انخفض الاستيراد من حدود 1702 سيارة في نيسان 2022، إلى 822 سيارة فقط في نيسان الماضي، بحسب أرقام "رسامني يونس".
الاعتمادات المفتوحة بعشرات آلاف المليارات والتي تعادل بمجملها قيمة موازنة العام 2022 مغطاة بالتصاريح الشعبوية، وليس بالإيرادات الفعلية. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما مصير هذه الزيادات في حال لم تقرّ الموازنة في الحكومة أو مجلس النواب؟ وكيف تكتب هذه الاعتمادات في قطع الحساب؟ وبأيّ خانة توضع؟ أسئلة لا جواب عليها إلّا التحجّج بمصلحة الموظفين في القطاع العام، من أجل تبرير الإنفاق من دون سقف وبعيداً عن الإصلاحات الجدّية المطلوبة داخلياً وخارجياً، من أجل تحسين وضع القطاع العام بشكل جدّي.
صدق كارل ماركس عندما قال إنّ "التاريخ يعيد نفسه في المرة الثانية على شكل مهزلة"، ففي المرّة السابقة كانت المأساة بتشريع مجلس النواب إعطاء سلسلة الرّتب والرواتب من دون تقدير للإيرادات، أمّا هذه المرّة فإنّ مجلس النواب لم يطلب أن يكون بين يديه موازنة يستند إليها، ليفتح فيها اعتمادات. وهو ما يدفع للتساؤل إن كان المشرّعون تخلّوا عن دورهم الرقابي والتشريعي وفق القانون لصالح الشعبوية التي تضرّ الموظفين أكثر من غيرهم.