ملّ الموظفون من "سيرة" رواتبهم المتهاوية، ولم يملّ المسؤولون من اللعب بأعصابهم. مع نهاية كل شهر "تعوم" هواجس العاملين في القطاع العام على سطح "مستنقع" واقعهم المعيشي. هل سنتقاضى الزيادة على الراتب؟ ما مقدارها، ثلاثة أو سبعة أضعاف؟ وعلى أيّ سعر صرف، ستون ألفاً أم ستة وثمانون؟! وما هو مصير المساعدات المرضية؟ الأسئلة الكثيرة التي "تصبغ" يومياتهم بـ "ألوان" الفقر المتعدّد الأبعاد، "توّجتّها" الحكومة هذا الشهر ببدعة جديدة ستحوّل هواجسهم إلى الحرص على عدم فقدان راتبهم الأساسي.  

أقرّت الحكومة في جلسة 18 نيسان الفائت زيادة رواتب العاملين في القطاع العام 4 أضعاف، تضاف إلى الأضعاف الثلاثة المقرّة سابقاً، ليصبح مجموع الزيادة سبعة أضعاف (يبدأ تسديدها مع مطلع أيار). لكنّها في المقابل لا تملك الصلاحية لصرف الأموال، هذا إن افترضنا أنّها متوفرة لديها أصلاً. فالحكومة لا زالت تنفق على أساس موازنة 2022، استناداً إلى القاعدة الاثنتي عشرية. وكلّ إيرادات تلك الموازنة المقدّرة بـ 39 ألف مليار ليرة لا تكفي لتغطية الزيادات على الرواتب للأشهر المتبقية من هذا العام. وعليه يفترض بمجلس النواب إقرار قانون يجيز للحكومة فتح اعتمادات إضافية في موازنة 2023، لتتمكّن من صرف الزيادات على الرواتب. إلّا أنّه من غير المعلوم لغاية اللحظة إن كان رئيس مجلس النواب نبيه برّي سيدعو إلى جلسة لإقرار مثل هذا القانون، وإن كانت القوى النيابية ستوافق على جلسة تشريعية في ظل غياب رئيس للجمهورية، وتحوّل البرلمان إلى هيئة ناخبة.

لا مشكلة قانونية

المعلومات الأولية تشير إلى أنّ "أحداً من النواب لن يتجرّأ على حرمان الموظّفين من الرواتب، خصوصاً في ظلّ هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّون بها". ومن المرتقب أن يدعو الرئيس برّي إلى جلسة عامّة مطلع الأسبوع المقبل. وذلك بعد أن تكون اللجان المشتركة التي تجتمع اليوم تحت قبّة البرلمان، قد أنجزت دراسة اقتراح القانون الرّامي إلى فتح اعتمادات إضافية في موازنة العام 2023.

المشكلة مالية

إيجاد "الفتوى" القانونية لدفع الرواتب مع الإضافات عليها، يعتبر الجزء السهل من المشكلة. أمّا الجزء الأصعب فيتمثّل في توفًر المبلغ المراد دفعه للأشهر السبعة المتبقية من العام الحالي، ومصدره. فمقابل قول رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إنّ "السيولة متوافرة في حسابات الخزينة، وهناك تحصيل جيد لإيرادات الدولة"، تبيّن الأرقام عكس ذلك.

تعتمد الحكومة بشكل أساسي على "الدولار الجمركي" لتغطية الزيادات على الرواتب. وهي عمدت إلى رفعه من 1500 ليرة في نهاية تشرين الثاني 2022 إلى 86 ألف ليرة راهناً. وبحساباتها تعتبر الحكومة أنّ العائدات من الدولار الجمركي تمثّل 2.5 في المئة من مجموع الواردات. وإذا افترضنا أنّ حجم الواردات سيصل في العام 2023 إلى 19 مليار دولار كما في العام 2022، فإنّ العائد من الرسوم الجمركية سيبلغ 475 مليون دولار، أو ما يعني قرابة 41 ألف مليار ليرة على سعر صرف 86 ألف ليرة.

عدم كفاية الدولار الجمركي

حسابات حقل الحكومة في ما خص الدولار الجمركي لا تتوافق مع حسابات بيدر السوق لمجموعة عديدة من الأسباب وأهمّها:

- تقدّر كلفة الزيادة المضاعفة على رواتب القطاع العام لما تبقّى من العام بحدود 46.6 ألف مليار ليرة، بحسب دراسة لـ "بلوم إنفست"، على أساس أنّ كلفة الزيادة ككلّ تصل سنوياً إلى 70 ألف مليار ليرة. وعليه يبقى الدولار الجمركي (40 ألف مليار ليرة)، قاصراً عن تغطية الزيادة على الرواتب حتّى إذا افترضنا أنّ الاستيراد بلغ أقصاه أي 19 مليار دولار.

- استحالة استيراد لبنان في العام 2023 بضائع من الخارج بقيمة تصل إلى 19 مليار دولار كما في العام 2022. ففي العام الأخير زادت نسبة الاستيراد طوال الأشهر الإحدى عشر الاولى بشكل كبير جداً تحسّباً من زيادة الدولار الجمركي"، يقول رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق د. باتريك مارديني. "وحتى عندما رفع الدولار الجمركي إلى 15 ألف ليرة في كانون الأول 2022 لم يتراجع الاستيراد لأنّ التجار يعتبرون أنّ هذا الرقم أفضل بكثير من الاستيراد على سعر منصّة صيرفة، الذي أشيع أنّه سيبدأ العمل به في العام 2023".

- تظهر الأرقام بما لا يقبل الشكّ أنّ رفع الدولار الجمركي في كانون الأول 2022 بنسبة عشرة أضعاف لم يؤدِّ إلى زيادة الإيرادات إلّا بنسبة أربعة أضعاف فقط. فـ "زادت الإيرادات الجمركية في كانون الأول 2022 عن نفس قيمة المستوردات للأشهر السابقة، من متوسط 142 مليار ليرة شهرياً، إلى 553 ملياراً"، بحسب أرقام مصرف لبنان. وهو ما قد يشكّل برهاناً على أنّ رفع الدولار الجمركي بهذا الشكل العشوائي لا يزيد إيرادات الدولة بنفس النسبة.

- حتمية تراجع الإيرادات بشكل أكبر بكثير مع وصول الدولار الجمركي إلى 86200 ليرة. نتيجة ازدياد عمليات التهرّب الجمركي وارتفاع نسب التهريب، و"تحوّل نحو 49 في المئة من الاقتصاد إلى نقدي" بحسب البنك الدولي.  

كلّ هذه العوامل تُظهر أنّ الدّولة لا تملك الإيرادات لتسديد الزيادات على الرواتب، وهي ستضطر إلى الاستعانة بمصرف لبنان لتمويل هذه الزيادات من خلال طباعة الأموال. الأمر الذي سيؤدّي إلى عودة الكتلة النقدية بالليرة إلى الارتفاع بشكل كبير. وستسبّب بعودة الدولار إلى الارتفاع سواء امتصّها مصرف لبنان عبر ضخّ الدولار أو لم يمتصّها. ففي الحالة الأخيرة ستتحوّل كلّ ليرة إلى دولار بشكل مباشر أو غير مباشر، وستؤدّي إلى ارتفاع سعره. وبالتالي تحليق أسعار مختلف السّلع والخدمات. أمّا في حال استمرّ مصرف لبنان بامتصاص الليرات عبر صيرفة، وهو أمر مستبعد في المرحلة القادمة، فإنّه سيضطرّ إلى شراء الدولار من السّوق وتسجيل الفرق بين السّعر الرسمي وسعر السّوق ديناً على الدّولة، أي على الشعب. ما سيؤدّي إلى ارتفاع الدولار أيضاً، وإرهاق المواطنين بالمزيد من الضرائب والرسوم في المراحل القادمة.