أضاف التعميم 165 الصادر عن مصرف لبنان همّاً جديداً على هموم المودعين الكثيرة. وعلى غرار أترابه من التعاميم التي حَكم فيها المركزي الشأن الاقتصادي منذ بدء الانهيار، يثير التعميم 165 أسئلةً أكثر مما يقدّم من أجوبة. ولعلّ أكثر ما يشغل بال أصحاب الودائع الجديدة هو مصير أموالهم النقدية في حال استعمالها بالشيكات والبطاقات المصرفية. فهل ستبقى جاهزة للتسييل ساعة يشاؤون أم أنّها ستتحول إلى "لولار" جديد.

باختصار ينصّ التعميم 165 على تنظيم استعمال الودائع الجديدة بالليرة والدولار "فريش"، المكونة بعد 17 تشرين الثاني 2019، بوسائل الدفع غير النقدية. فلغاية اليوم يتمّ التداول بهذه المبالغ نقداً بين المصرف والعميل، وبين الأخير والمتعاملين معه سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات. ولا يمكن استعمال أرصدة الحسابات النقدية لإصدار الشيكات أو استعمالها في بطاقات الائتمان. وللغاية طلب المركزي من المصارف فتح حسابات جديدة لديه بالليرة اللبنانية والدولار مخصّصة، حصراً، لإجراء جميع العمليات المتعلقة بمقاصّة الشيكات والتحاويل الالكترونية الخاصة بـ "الأموال النقدية"، خلال مهلة حدها الاقصى 10/5/2023. وعليه يجب على المصارف إيداع اوراق نقديةBanknotes  لدى وحدة العمليات الأجنبية في مصرف لبنان أو عبر تحاويل من المصارف المراسلة مخصصة لتغذية الحسابات الجديدة بالدولار الاميركي. وهنا مكمن الخوف. فمن يضمن عدم وضع مصرف لبنان يده على هذه الأموال، كما وضعها سابقاً على الودائع التي تعود إلى ما قبل 17 تشرين الاول، وحوّلها بسحر ساحر إلى دولار محلّي، لا يمكن قبضها إلّا نقداً وعلى سعر صرف 15 ألف ليرة.

سلبيات التعميم  

المخاوف من استيلاء المركزي على الودائع الطازجة، والعجز في ما بعد عن تسييلها يعود بحسب مصدر مصرفي إلى سببين:

الأول اكتواء المودعين والمصارف على حد سواء، من "تبخّر" التوظيفات في مصرف لبنان على مختلف أنواعها.

الثاني، الحجم الهائل لحسابات الفريش دولار المكونة من بعد 17 تشرين الاول 2019. حيث يقدّر بالأرقام أن يكون عدد الحسابات بحدود 200 ألف حساب فريش تجمع ما بين 1.5 إلى 2 مليار دولار.

 وإذا افترضنا بحسب أكثر السيناريوهات تفاؤلاً التزام جميع أصحاب هذه الحسابات استخدام هذا المبلغ بالشيكات أو عبر وسائل الدفع الالكترونية، فإنّ مبلغاً كبيرا ًسينتقل إلى مقاصّة المركزي، ولا يعود من أحد قادر على التنبّؤ بكيفية التصرف به أو استعماله.

الايجابيات

من الجهة المقابلة يشكّل الخروج التدريجي من الاقتصاد النقدي المستفحل مطلباً داخلياً وخارجياً. وقد لفت البنك الدولي في تقريره الأخير "التطبيع مع الأزمة ليس طريقاً للاستقرار" إلى أنّ الاقتصاد النقدي يشكّل 45.7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي في عام 2022، وبحجم يصل إلى 9.9 مليارات دولار. ويفرض هذا الحجم الهائل من الأموال المتداولة نقداً، تحديات جسيمة في قدرة لبنان على الالتزام بمخاطر تبييض الأموال، وهو "على قاب قوسين أو أدنى" من وضعه على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي. وتبيّن أرقام جمعية المصارف أنّ التداول بالشيكات تراجع على صعيد سنوي بنسبة 74 في المئة، من 732712  شيكاً بحلول نيسان 2022، إلى 190418  شيكاً بحلول نيسان 2023. توازياً تراجعت القيمة التراكمية للشيكات المقاصة بالعملة الأجنبية من حدود 4 مليار دولار إلى 1.6 مليارا للفترة نفسها.  وهو ما يشكّل دليلاً إضافياً على خطورة "تغوّل" الاقتصاد النقدي.

التداول بكميات كبيرة ولاسيما بالليرة اللبنانية تصل إلى مئات المليارات، تفرض تحديات تقنية وأمنية عالية تتصل بجمع المبالغ وتخزينها ونقلها، وضمان عدم وجود فئات مزوّرة والخوف من التعرض للضياع والسرقة. كل هذه التحديات تجعل من العودة إلى مصادر الدفع بالوسائل غير النقدية، أي الشيكات والبطاقات أمراً بالغ الأهمية. إنّما هذا يتطلّب إعادة بناء الثقة مع المصارف وبينها وبين المصرف المركزي، لكي تتوسّع هذه العملية وتأخذ مساحتها الطبيعية من الاقتصاد.

ولادة التعميم

يلفت خبير المخاطر المصرفية د. محمد فحيلي إلى أنّ التعميم 165 ولد من رحم طلب مجموعة العمل المالي قبل أشهر من مصرف لبنان اتّخاذ إجراءات سريعة لتخفيف وتجفيف التبادل بالأوراق النقدية. وقتها تمّ إعداد مسوّدة التعميم 165، سريعاً، إلّا أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي رفض تعميمها. وبعد فترة وتحديداً في 19 نيسان الفائت أصدر المصرف المركزي التعميم، من دون معرفة إن كان بمباركة وزارة المالية التي كلفت التنسيق معه أو بعدم رضاها". ويرى فحيلي أنّ "اعتبار البعض أنّ تطبيق التعميم 165 يشكّل اعترافاً صريحاً بموت الودائع القديمة بالدولار، غير دقيق. فالتعميم الأساسي رقم 150 الصادر في 9 نيسان 2020، هو التعميم الذي وضع أرصدة الحسابات بالدولار المحلّي في خانة "المتعثرة"، وتعذّر سدادها وفق رغبة وإرادة المودع. وقد أتى بعده التعميم 151 ليقضي على الأمل كلّيا باسترداد الودائع بالدولار بقيمتها الحقيقية. حيث سمح بسحب الودائع بالدولار على أساس سعر "الدولار المحلي" اللولار، 4000 ليرة وقتها. قبل أن يرفع تدريجياً إلى 8000 ليرة ومن ثم 15000 ليرة اليوم". وبحسب فحيلي فإنّ "التعميم 165جاء ليخفّف الاعتماد على الأوراق النقدية في تسديد فواتير الاستهلاك للأفراد، وفواتير المصاريف التشغيلية للمؤسسات". وبرأيه "كان لزاماً على لبنان إصدار مثل هذا التعميم وهو على موعد مع رقابة مجموعة العمل المالي على مدار الاثني عشر شهرا القادمين.فإمّا يقوم بترتيب البيت الداخلي ويتفادى التصنيف الأسود، أو يحفّز سرعة التدهور".

في الوقت الذي يتفاوت فيه التزام المصارف بالسير قدما بالتعميم 165، خصوصاً أنّه نقل غرفة المقاصّة من المصارف المراسلة إلى إدارته المباشرة، إلّا أنّ الاتجاه هو لتطبيقه على الليرة اللبنانية، دون الدولار. وهذا لا يعود إلى الحجم الهائل للمبالغ المتداولة بالليرة والمشاكل اللوجستية التي تسبّبها، إنّما أيضا إلى "عدم وجود مشكلة عند المصارف بالتعامل غير النقدي بالليرة الطازجة"، من وجهة نظر فحيلي. "في حين أنّ الوديعة بالدولار التي ستضعها المصارف من أجل المقاصة في مصرف لبنان ستكون من "جيبها" الخاص، وليس من أرصدة الدولارات النقدية. ذلك أنّ الأخيرة معفية من جهة من أي توظيفات الزامية، ومحكومة من الجهة الثانية بأخذ مؤونات عليها بنسبة 100 في المئة لدى المصارف المراسلة". فهل يعطي التعميم 165 عند التطبيق "العز" للتعامل بشيكات الليرة، والدولار "يشنق" نفسه أو.. ينفد بريشه! الجواب برسم القادم من الأيام.