بات في حكم المؤكّد أنّ ما بعد القمّة العربية المقرّرة في جدّة سيكون غير ما قبله لبنانياً وعربياً ودولياً، فهي قمّة العائدين من الحرب، بل الحروب، إلى رحاب السلم والتوافق على طريق إقامة نظام عربي جديد، فالعرب اقتتلوا وتقاتلوا طويلاً مباشرة، أو بالواسطة، من الخليج إلى المحيط، خصوصاً في إطار ما سمّي "ثورات" الربيع العربي، التي تحوّلت منصات تقاتل وتراشق في ما بينهم، حاول كلّ منهم تصفية الحساب مع الآخر، وكانت النتيجة دماراً شاملاً للجميع، دفعهم للعودة إلى الرّشد والتعقّل خصوصاً وأنّ النيران قد اشتعلت من حولهم، مبشّرة بعالم جديد متعدّد الأقطاب أو القطبية بدأ يولد من لهيب الحرب الروسية ـ الأوكرانية.

وفي ظلّ هذه الاجواء كان الاتفاق السعودي ـ الإيراني برعاية الصين في العاشر من آذار الماضي تحت شعار "تصفير" المشكلات الإقليمية لمصلحة طرفي الاتفاق وكل الدول التي اشتبكا فيها من اليمن إلى البحرين والعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان. وهذا "التصفير" بالمعنى الأشمل هو "تصفير" لكلّ المشكلات التي تعيشها هذه الدول مجتمعة، ما يضع المنطقة أمام مستقبل جديد يقوم على التعاون بدل التنابذ.

نزاع بوجهين

كان يمكن للبنان أن يشارك في قمّة جدّة ممثلاً برئيس جمهورية جديد، ولكن شاءت الأقدار أن يتمثل برئيس حكومته، لأنّ النزاع الدائر على الاستحقاق الرئاسي بين القوى السياسية يعوق انتخاب الرئيس منذ أكثر من ستة أشهر، وهو نزاع ذو وجهين خارجي بين العواصم المتعاطية الشأن اللبناني والتي تتمحور حولها القوى الداخلية. وداخلي بين هذه الأخيرة التي تتأثر بالعواصم الخارجية وبأهوائها ما يجعلها حتى اللحظة عاجزة عن امتلاك حرّية القرار والخيار أو الاختيار.

لكن في الآونة الاخيرة اتّضحت الصورة بوجهيها الداخلي والخارجي، من خلال حركة السفير السعودي وليد البخاري والموقف الذي عبّر عنه ويختصر موقف مجموعة دول اللقاء الخماسي (الولايات المتحدة الاميركية، فرنسا، السعودية، مصر، قطر) وهو انتخاب رئيس جمهورية في أسرع وقت وأن لا "فيتو" على أيّ مرشّح، ولا دعم لأيّ مرشّح، وأنّ الدول الخمس تدعم أيّ رئيس يُتّفق عليه أو يُنتخب.

ويرى معنيون بالاستحقاق الرئاسي أنّه في ظل انعدام التوافق على مرشّح واحد، فإنّ الاتفاق بين مكونات المعارضة على مرشّح ينافس سليمان فرنجية ما زال غير متاح بسبب وجود "فيتوات" متبادلة على هذا المرشّح أو ذاك، فلا "التيار الوطني الحر" يقبل بمرشّح "القوات اللبنانية" صلاح حنين أو غيره، ولا "القوات" تقبل بمرشّح "التيار" الوزير السابق جهاد أزعور أو النائب نعمة افرام أو غيره. فيما رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بدأ يمسك العصا من وسطها، فلم يقطع مع هذين الطرفين ولا مع الثنائي الشيعي، وفي حواره المتلفز الأخير حافظ على "اللياقات" مع الجميع، من دون أن ينغمس في لعبة الترشيحات، ولكنه تغزّل بمواصفات شبلي الملاط الفهيم بالقوانين الدولية، ومرشّحاً أزعور لحاكمية مصرف لبنان، مشيداً بـ"عروبة" آل فرنجية، ما يعني أنّ الرجل لم يغادر بعد سياسة الانتظار للحاق بمن تميل الكفّة لمصحلته أو البقاء حيث هو إن وجد في الأمر ما يفيده، ولكنّه بالتأكيد لم يقطع ولن يقطع مع رئيس مجلس النواب نبيه بري.

صدمتان للمعارضة

على أنّ  ما يعوق المعارضين في سعيهم إلى الاتفاق على مرشّح بديل للمرشح النائب ميشال معوض (الذي أعلن انه لن ينسحب إذا لم تتفق المعارضة على بديل له) هو انعدام الثقة بين مكوناتها، فجاء بيان "القوات اللبنانية" ضدّ رئيس مجلس النواب نبيه بري ليعتّم على فشل مكوّنات المعارضة.

وفي هذا السياق وفي محاولة سابقة لجمع المعارضة حول مرشّح واحد ينافس فرنجية، كان جعجع قد عرض على باسيل قبل شهرين إبان وساطة البطريركية المارونية أن يفكّ تحالفه مع حزب الله، بل لم يكتف بهذا الأمر فقط وإنّما طلب أيضاً أن يعلن الرئيس ميشال عون شخصياً الخروج من التفاهم مع الحزب، لكن باسيل لم يستجب لهذا الطلب.

والمفارقة انه فجأة وبعد الموقف السعودي الأخير وما تلاه من كلام عن عقوبات يمكن أن تُفرض على من يعطّل نصاب جلسة انتخاب الرئيس، إنبرى جعجع إلى القبول بأزعور كمرشّح لباسيل ضارباً عرض الحائط مواقفه السابقة وتدخل الرئيس فؤاد السنيورة لديه شخصياً دعماً لأزعور.

الحزب والتيار

اما على جبهة حزب الله – "التيار الوطني الحر"، وبحسب أوساط الطرفين فأنّ أيّ تقدّم بينهما لم يحصل بعد على مستوى التقارب المطلوب حول الاستحقاق الرئاسي، إذ أنّهما ما زالا في المربّع الأول أي منذ اللقاء الشهير بين الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله وباسيل، والسبب، حسب أوساطهما، هو أنّ التيار يشترط أن يتم البحث بينه وبين الحزب في لائحة أسماء مرشّحين لا يكون بينها اسم فرنجية، فيما الحزب يصرّ على أن يكون فرنجية بين هذه الأسماء وإلّا لا داعي لأي بحث.

ثلاثة خيارات

لذلك من الواضح أنّ مصير الاستحقاق الرئاسي صائر إلى ثلاث خيارات لا رابع لها، وهي:

أوّلاً- هبوط "كلمة سرّ" ما، في لحظة ما، تدفع الجميع للنزول إلى مجلس النواب لانتخاب رئيس تيار "المردة" كمرشّح توافقي داخلي وخارجي، وليرفض انتخابه من يرفض ولينتخبه من يرغب، بشرط أن يؤمّن الجميع نصاب أكثرية الثلثين للجلسة الانتخابية بدورتيها الأولى والثانية.

ثانياً - اتفاق المعارضة أو المعارضين على مرشّح يخوض المعركة الانتخابية ديموقراطياً في مواجهة فرنجية الذي يدعم "الثنائي الشيعي" وحلفاؤه ترشيحه، ويتمسّكون به بعيداً من أي "خطة باء"، غير موجودة أصلا في قاموسهم السياسي.

ثالثاً - أن يكون للمعارضين مرشحين اثنين، إذا تعذّر اتفاقهم على مرشّح واحد، أي أن يكون لـ"التيار الوطني الحر" مرشّح ولحزب "القوات اللبنانية" وحلفائها مرشّح آخر، وتخاض الانتخابات ديموقراطياً بين كل منهما وفرنجية، وليفز عندها من يفز، فمثل هذه الجلسة ترفع الإحراج عن أي فريق وتبعد عنه تهمة التعطيل لدى عواصم القرار المهتمة بالاستحقاق الرئاسي، والتي لوّحت بإمكان فرض عقوبات على كل فريق يعطّل جلسة الانتخاب الرئاسي التي بدأ بري التحضير لها منتظراً الضوء الأخضر لتوجيه الدعوة إليها.

وفي رأي معنيين بالاستحقاق أنّ قمة جدة ستكون مفصلية خصوصاً في ضوء المحادثات التي ستحصل قبلها أو على هامشها أو بعدها بين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس السوري بشار الأسد، حيث سيكون ملفّ لبنان في صلب المحادثات بينهما، خصوصاً أنّ الرياض ودمشق شريكتان أساسيتان في رعاية تنفيذ اتفاق الطائف منذ إقراره خريف العام 1989، علماً أنّ الجميع يدرك أنّ الحل اللبناني لا يمكن أن يُكتب له النجاح بمعزل عن سوريا حتّى بعد خروجها العسكري من لبنان منذ العام 2005، فالمشتركات التاريخية بين البلدين تفرض التعاون بينهما بدعم عربي عموماً وسعودي  تحديداً وصيغة الـ "سين – سين" الشهيرة خير دليل، ولكنّها هذه المرّة ستكون صيغة منقّحة تأخذ في الاعتبار أنّ الواقع اللبناني والسوري اليوم هو غير ما كان قبل العام 2005 وعلى مدى ثلاثين عاماً من الوجود العسكري السوري المباشر على الأراضي اللبنانية.

ويشير المعنيّون إلى أنّ الجانب السعودي المنفتح بقوّة على سوريا، بعد اتفاقه مع الجانب الإيراني لا بدّ أن يأخذ في الاعتبار أنّ انتخاب رئيس للبنان متناغم مع القيادة السورية فيه مصلحة للرياض ودمشق، وحتّى لمتطلبات الاتفاق بينهما وكذلك لمتطلبات الاتفاق السعودي ـ الإيراني. ولذلك فإنّ إعلان الرياض أن لا "فيتو" لديها على أي مرشّح لرئاسة الجمهورية انما كان المقصود به فرنجية وليس اي مرشح آخر.

ولذلك تجمع المعلومات المتقاطعة على أنّ قمة جدّة ستكون قمّة الاستحقاقات العربية التي فرضتها وتفرضها تداعيات الاتفاق السعودي ـ الايراني، وبينها الاستحقاق اللبناني الذي سينجز في كنف الاستحقاق السعودي ـ السوري المنتظر أن تتوّجُه المحادثات السعودية ـ السورية قبيل القمة وخلالها وبعدها، فيما يلوح في الأفق اتفاق سوري ـ تركي، الرياض ليست بعيدة عنه وسترعاه روسيا على الارجح، تيمناً، أو في موازاة الرعاية الصينية للاتفاق السعودي ـ الإيراني.