طارق ترشيشي

الهدوء ـ الجمود الذي يلفّ الاستحقاق الرئاسي منذ بداية عطلة الأعياد، لا يعكس حقيقة ما يدور في الكواليس المحلّية والإقليمية والدّولية حوله، بل أنّه  هدوء يسبق العاصفة السياسية التي ستهبّ في شأنه بعد انتهاء العطلة، في ضوء التطوّرات والتفاعلات الإيجابية المتلاحقة نتيجة الاتفاق السعودي ـ الإيراني والتي كان آخرها، زيارة وزير الخارجية السّعودي الأمير فيصل بن فرحان لدمشق بعد أيام على لقائه نظيره السّوري في مدينة جدة عشية اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي الأسبوع الفائت، والذي شدّد على حلّ سياسي للأزمة السّورية ودعم السّلطة الرسمية في دمشق لترسيخ هذا الحلّ.

وإلى أنّ تهبّ هذه العاصفة، يستمرّ الأفرقاء السياسيّون المتخاصمون والمتنافسون حول الاستحقاق الرئاسي في ممارسة سياسة ملء الوقت الضائع بخلافات متنوعة، كان منها الانتخابات البلدية والاختيارية التي كان تأجيلها "تقنياً" نوعاً من وضع ملف خلافي جانباً إلى ما بعد انتخاب الرئيس العتيد، كون هذه الانتخابات قد تحرج كثيرين في خوض "اختبار قوة" على مستوى أحجام التمثيل الشعبي والسياسي قد يأتي بنتائج في غير مصلحتهم، خصوصاً في ظل نقمة الرّأي العام على الطبقة السياسية، وتحميله إيّاها مسؤولية الانهيار الذي أصاب البلاد على كل المستويات.

ويقول أحد الوزراء أنّه كان في الإمكان إنجاز هذا الاستحقاق البلدي لو صفت النيّات، لأنّ التّذرّع بانعدام توافر الكلفة المالية المطلوبة لإنجازه والبالغة نحو 9 ملايين دولار غير واقعي. إذ في الإمكان تأمين هذا المبلغ حتى من حقوق السّحب الخاصّة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي، أو من أي من المنظمات الدّولية ذات الاهتمام أو أي مصدر آخر، مع العلم أنّ التأجيل التقني ترك المجال للحكومة لإجرائها فور توافر الكلفة المالية المطلوبة، وكذلك المتطلبات اللوجستية في أي وقت قبل نهاية فترة التمديد في 31 أيار 2024.

ويقول معنيّون بالاستحقاق الرئاسي أنّ حركة الاتصالات في شأنه ستنشط ابتداء من الأسبوع المقبل، في ضوء حديث عن اجتماع قريب ثان لمجموعة الدول الخمس في باريس أو الرياض، تتم خلاله مقاربة ومقاطعة بين كل ما تجمّع لدى كل من هذه الدول من معطيات نتيجة استطلاعاتها لآراء الأفرقاء السياسيين اللبنانيين وفي الخارج حول هذا الاستحقاق.

غير أنّ مصدراً مطلعاً على أجواء الاتصالات يقول أنّ الجميع ومن ضمنهم بعض العواصم العربية والأجنبية المهتمة ينتظرون الموقف السعودي الذي لم يتبلور عملياً بعد، وما زال ما يسرّب منه حتّى الآن مندرجاً في إطار الحديث عن مواصفات الرئيس العتيد، من دون الخوض في تزكية هذا المرشح أو ذاك، فيما الحقيقة هي أنّ المملكة العربية السعودية تتريث في حسم موقفها النهائي بانتظار التّطوّر في تنفيذ الاتفاق على تطبيع العلاقات بينها وبين إيران، وترسيم حدود النّفوذ الإقليمي بينهما، مع ما ينطوي على ذلك من توازن في الأدوار والضمانات والمكاسب التي يطمح إليها الجانبان من خلال هذا الاتفاق وفعاليته في النظام الإقليمي الذي سيرسيه.

ولذلك، يضيف المصدر، أنّ هناك "عجلة من دون استعجال" في تنفيذ "اتفاق بكين"، مع الأخذ في الاعتبار العمل على تحقيق مزيد من الانفراج في الأزمات الاقليمية في الفترة الفاصلة عن القمة العربية المقرّرانعقادها في 19 ايار المقبل في السعودية، ففي موازاة تسارع الخطوات على طريق انهاء الحرب في اليمن، هناك تسارع لهذه الخطى في اتجاه سوريا التي اصبح حضورها في القمة العربية من عدمه مسألة عادية، حيث أنّ كل الدول العربية حتى التي تعارض النظام وساعدت على إسقاطه تنادي حاليا بحلّ سياسي للأزمة السورية، في ظلّ النظام القائم الذي كان مرذولاً لديها طوال سنوات الحرب السورية. واللافت أنّه لم يعلن في دمشق ولا في الرياض أنّ وزير الخارجية السعودي نقل إلى الرئيس السوري بشار الاسد دعوة للمشاركة في القمة العربية المقبلة.

وفي الموازاة أيضا كان الاهتمام بالأزمة اللبنانية ولا يزال كبيراً، بدليل مساعي دول اللقاء الخماسي التي يحاول البعض ضم إيران إليها، ما ولّد قناعةً بأنّ الحلّ اللبناني سيكون كلاً متكاملاً، عنوانه الاتفاق على انتخاب رئيس الجمهورية الجديد من ضمن التسويات الشاملة التي تنهي كلّ الأزمات من اليمن إلى البحرين والعراق وسوريا ولبنان. وهذه التسوية لمّح اليها رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية خلال زيارته الأخيرة للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي حيث قال أنّ "التسويات في المنطقة على قدم وساق" مؤكداً "أنّ اللعبة تغيّرت في المنطقة وهذا الأمر سينعكس على لبنان"، داعياً جميع السياسيين إلى "قراءة الأمور بغضّ النظر عن الأشخاص".

ويقول مطّلعون على موقف فرنجية الذي يتمسك الثنائي الشيعي بشدة في دعم ترشيحه طالما هو مستمر في خوض السباق الرئاسي، أنّ كلامه من بكركي عن التسويات في المنطقة إنّما هو موجه إلى "التيّار الوطني الحرّ" و"القوات اللبنانية" اللذان يعلنان حتى الآن معارضتهما بشدة وصوله إلى سدّة رئاسة الجمهورية. إذ أنّه يخشى أن تأتي تلك التسويات على حساب المسيحيين، تماماً كما حصل عام 1989 عندما عارضوا "اتفاق الطائف" أو انقسموا حوله بين مؤيّد ومعارض، وكان الانقسام المسيحي الشهير يومها وما نتج عنه ما سمي "إحباط مسيحي" ومقاطعة المشاركة في الحكومات والانتخابات النيابية. ولذلك عندما سئل فرنجية على منبر البطريركية المارونية عن مستقبل المسيحيين في لبنان قال: "مستقبلنا كمسيحيين في يدنا، الماضي لا يبشّر بالخير، لذلك علينا أن نقرأ الحقيقة فقط وليس رغباتنا".

والواقع يقول المصدر نفسه أنّ بين القوى السياسية من يفكّر برغباته، ويعكس هذا بعض الصّخب والضخّ الإعلامي الجاري حول الاستحقاق الرئاسي، حيث أنّ هناك تسويقاً لمواقف على عكس حقيقتها، إلى درجة أنّ البعض يسوّق مواقف لبعض العواصم حول الاستحقاق الرئاسي يتبيّن لاحقاً عدم صحّتها أو عدم وجودها في الأصل. كذلك يتبيّن أنّ الغاية منها إشاعة مناخ معيّن للفت انتباه المهتمّين بالاستحقاق الرئاسي، ومحاولة اقناعهم بتغيير ما لديهم من خيارات في شأنه. كذلك يتبيّن أنّ بعض الأفرقاء قلقون حيال الموقف السعودي وما يمكن أن يكون عليه ازاء هذا الاستحقاق لأنّه سيكون مبينا، بل موازنا بين الحلّ اللبناني وبقيّة الحلول، وآخذا في الاعتبار وبالدرجة الأولى المصالح السعودية في لبنان كما في سوريا والعراق واليمن، وإذا لم يكن كذلك أقلّه في لبنان، فلن يكون هناك أي اهتمام أو مشاركة سعودية فاعلة في ورشة نهوضه من الانهيار، ليبقى في الحدود التي هو عليها الآن، أي تحت سقف الصندوق السعودي ـ الفرنسي المشترك ذا الطابع الإغاثي فقط.

وفي السياق فإنّ الأنظار كانت ولا تزال منصبّة على موقفي "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" داخلياً، فأيّ تطوّر في أي منهما سيؤشّر إلى طبيعة التسوية الموعودة، ويرى البعض أنّ هامش المناورة أمامهما ازاء الاستحقاق الرئاسي بدأ يضيق، ويولّد مزيدا من الاقتناع لدى الرأي العام داخلياً وخارجياً أنّهما يؤخّران انجاز الاستحقاق الرئاسي، خصوصاً حيث أنّهما لم يتّفقا بعد على دعم مرشّح، أي مرشّح يلتقيان حوله، طالما أنّهما يعارضان ترشيح سليمان فرنجية.