خالد أبو شقرا
لم يخطُر في بال رامي، "موظف الدولة"، أن يُطبق سقف البيت الذي اشتراه بالتقسيط قبل سنوات، على "خوانيقه". المسكن بما يُمثّله من أمانٍ، وبما يولّده من شعور بالاستقرار، تحوّل إلى همٍّ بالنسبة لرامي، وأمثاله المقترضين من موظفي القطاع العام. مصدر التّهديد لا يقتصر على إمكانية خسارة المنازل في المستقبل القريب نتيجة العجز عن التسديد، إنّما أيضاً تعمّد بعض المصارف حجز الرواتب التي تشكّل مصدر الدخل الوحيد الهزيل، كضمانة للرهون العقارية.
على غرار كل الإجراءات العشوائية خفّض مصرف لبنان سعر الصّرف الرّسمي في الأول من شباط الفائت من 1500 إلى 15 ألف ليرة، من دون إيجاد حلّ لقروض الدولار. ولاسيما بالنّسبة للذين يتقاضون أجورهم بالليرة اللبنانية. وتلقائيا عدّلت المصارف التجارية قيمة السندات على القروض "الدولارية" للمقيمين الأفراد، وبدأت باحتسابها على أساس 15 ألف ليرة للدولار، بدلاً من 1500 ليرة. وعمدت مع بداية آذار الفائت إلى احتجاز الرواتب "الموطّنة" للمقترضين الذين تخلّفوا عن السداد. الأمر الذي ألحق أضراراً بالغة بالشريحة التي تعتمد على هذا الرتب لتأمين أبسط مقوّمات الحياة.
العجز عن التسديد
ما يجري مع شريحة الموظفين العامين المقترضين بالدولار لا ينافي المنطق فقط، إنما يعتبر تعجيزياً. ففي الوقت الذي زادت فيه رواتب الموظفين ثلاثة أضعاف، أو ضرب مدخولهم بـ 4500 ليرة، تبعاً لموازنة 2022، زادت قيمة السندات عشرة أضعاف أو ضربت بـ 10 مرات. الأمر الذي أدّى إلى اختلال فاضح في النسبة التي تشكّلها القروض من مجمل الدخل.
بالعودة إلى رامي فإن قسطه الشهري كان يبلغ 900 ألف ليرة أو ما يعادل 600 دولار على سعر صرف 1500 ليرة، يشكّل 20 في المئة من مجمل دخله البالغ 4.5 مليون ليرة. ومع تخفيض سعر الصّرف الرّسمي ارتفعت قيمة القسط الشهري إلى 9 ملايين ليرة، وأصبحت تشكّل 67 في المئة من مجمل دخله الذي ارتفع إلى 13.5 مليون ليرة. فعجز عن التسديد وحجز المصرف على راتبه.
الحجز على الرواتب ممنوع
هذا الواقع أكّده مصرف لبنان بتعميمه الوسيط 664 بتاريخ 28 آذار 2023. إذ قال "لما كان قد تبين أنّ بعض المصارف تقوم بحجز معاشات عملائها "الموطّنة" لديها بغية تحصيل الأقساط أو الدفعات المستحقّة بالعملات الأجنبية الناتجة عن قروض ممنوحة لهم، وذلك بالليرة اللبنانية على أساس 15 ألف ليرة للدولار الواحد. ولمّا كانت معاشات ذوي الدخل المحدود لا تكفي لتسديد أقساط القروض الممنوحة بالدّولار الأميركي لمعظم المستفيدين في ظل ارتفاع سعر الدولار". و"نظراً للأوضاع الاستثنائية التي يمر بها لبنان، وللظروف المعيشية الصعبة التي يعاني منها اللبنانيون عامّة وذوي الدخل المحدود خاصّة"، طلب المركزي من المصارف العاملة في لبنان التالي:
- التقيّد بأحكام المادة 863 من قانون أصول المحاكمات المدنية وعدم حجز المعاشات، أو اقتطاع منها ما يتجاوز النسب المحدّدة في المادة المذكورة.
- العمل على إعادة جدولة قروض التجزئة الممنوحة بالدولار بحيث لا تتجاوز التسديدات الشهرية المرتبطة بهذه القروض النّسب المحددة في المادة 863 من قانون أصول المحاكمات المدنية، وفي الفقرة (ج) من البند 1، من المقطع ثانياً من هذه المادة.
الإجراءات قاصرة عن حل المشكلة العامة
هذا التعميم الذي ما زالت المصارف تستنسب في تطبيقه يعتبر "غير كافياً لحلّ المشكلة العامة المتفاقمة"، من وجه نظر الخبير الاقتصادي وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أنيس بودياب. فالمادة 863 الآنفة الذكر تجيز للمصرف الحجز لغاية 10 في المئة من الراتب، الفاقد أصلاً 90 في المئة من قيمته الشرائية. ثانياً، يؤكّد التعميم من وجهة نظر بودياب "على استمرار احتساب السندات لقروض الدولار على أساس 15 ألف ليرة للدولار. وهو يطلب من المصارف إعادة جدولتها على هذا الأساس. ما يشكل أمراً مرهقا بالنسبة للشريحة الأكبر من الموظفين الذين يتراوح متوسط رواتبهم بين 6 و8 مليون ليرة. إذ مهما مُدّدت فترات التقسيط، ستبقى مرهقة بالنسبة للموظفين، وأعجز من أن تُسدّد. وبرأي بودياب فإن "المصارف التي سوّقت لمنتجاتها طوال سنوات الرخاء واستغلّت عنصر الأمان والاستقرار في رواتب موظفي القطاع العام، مطالبة بإيجاد الحلّ العادل مع مصرف لبنان لهذه المشكلة التي تطال شريحة واسعة من المواطنين ويصل حجمها الإجمالي إلى حدود المليار دولار. ويقترح بودياب فتح نقاش جدي حول الموضوع من أجل السير بمسارين متوازيين:
- الأول، حسم الفوائد على القروض من أجل تخفيض قيمتها. خصوصاً أن المصارف استفادت طيلة سنوات من فوائد مرتفعة تراوحت بين 6 و8 في المئة.
- الثاني، تخفيض سعر الصّرف المخصص للسندات الدولارية بالنسبة لمن يتقاضى راتبه بالليرة اللبنانية إلى ما بين 3900 ليرة و4500 ليرة وهي نفس النسبة التي زادت فيها الرواتب والمعاشات.
المصارف مستفيدة؟
بعيداً عن نظريات المؤامرة يقول مصدر حقوقي إنَّ "حجز المصارف على العقارات المرهونة التي يعجز مالكوها عن الاستمرار بسداد أقساطها، وضمّها إلى محفظة أصولها، يعتبر أمراً مرحّبا به. فهناك تعميم من مصرف لبنان يتيح لها تقويم أصولها بالعملة الأجنبية. الأمر الذي ينفخ موازناتها بالمزيد من الدولارات "الطازجة"، ويعزز ملاءتها المالية.
مشكلة قروض الدولار التي تُحلّ اليوم بشكل إفرادي بين المصرف والعملاء، تحتاج إلى حلّ جماعي. خصوصاً أنها ترتبط بحق السكن المحمي دستورياً، والمُؤكّد عليه بالمواثيق الدولية، وبشرعة حقوق الإنسان.