هدأت "معركة" الرئاسات، وانجلى الغبار عن ساحة "وغى" سعر الصرف. العملة الوطنية بقيت ثابتة ولم ترتفع مقابل الدولار، كما توقع الكثيرون. وحدهم من حولوا ما بحوزتهم من عملة صعبة إلى ليرات قبل الاستحقاقين الرئاسي والحكومي، أملاً بتحقيق الارباح، يضربون اليوم "الأخماس بالاسداس": ماذا سنفعل بـ"أكوام" الليرات؟

قبل أسابيع قليلة، وتحديداً منذ وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، عمت البلد "هستيريا" تحسّن سعر صرف الليرة، بعد التاسع من كانون الثاني 2025، موعد جلسة انتخاب رئيس للجمهورية. الفترة الفاصلة الممتدة على 42 يوما، أمضاها المقيمون من لبنانيين وأجانب، بالرهان على ارتفاع سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى حدود لا تقلّ عن 50 الف ليرة. "أولى عمليات التصريف التي بدأت "حنجلة"، ما لبثت أن "كرجت كرج الحجال" عشية الانتخابات"، بحسب مصادر الصرّافين. فقد تهافت المواطنون على محلات الصيرفة بالالاف في مختلف المناطق، لاعتقادهم الراسخ أن بشائر العهد الجديد، ستكون ارتفاع سعر الصرف مدفوعاً بـ "هبّات" الثقة بانتظام الحياة السياسية، وتدفق المساعدات الدولارية الأجنبية بعشرات المليارات.

بالتوازي ، "قطفت" المصارف سريعاً فرصة اقتناع العامّة بتحسن سعر الصرف. وأخرجت إلى العلن، من حيث لم يكن أحداً يدري، خبر إعطائها فوائد على إيداعات الليرة تصل إلى 45 في المئة. فأصابت عصفورين بحجر الفوائد الواحد: أولاً وضعت أمام المواطنين "سلّماً" لإنزال شوالات الليرات عن "ميدنة" التخزين المنزلي الصعب، وأوحت ثانياً بان الربح سيكون مضاعفاً أو بنسبة 100 في المئة في حال إيداع المبالغ بالمصارف، خصوصاً إذا ارتفع سعر الصرف بنسبة 50 في المئة. وهو ما حفز على المزيد من عمليات التحويل. وقد جرى كل ذلك وسط "ضحك" مصرف لبنان "بعبّه". فالعملية تضخ الدولارات بالسوق وتمتص الليرات. ولكن أين مصلحة المصارف بذلك؟

الحاجة إلى الليرات

في الآونة الاخيرة واجهت المصارف، كما معظمُ المؤسسات، نقصاً كبيراً بالليرات لأن "العملة المتداولة خارج مصرف لبنان"، تراجعت لغاية منتصف كانون الاول الماضي إلى نحو 55.9 ألف مليار ليرة، لا تشكل اكثر من 630 مليون دولار، مقارنة بـ 20.5 مليار دولار في العام 2020. وعدا عن التزامات المصارف التي يجب تسديدها بالليرة مثل الضرائب، والرواتب، وبعض النفقات الإدارية، "تعاني البنوك من ارتفاع أسعار الفائدة بين بعضها البعض" (InterBank) بشكل كبير. ارتفعت الفائدة من 50 في المئة في أيار 2023 إلى 120 في المئة تموز 2023، ويقال إنها وصلت في الأيام الأخيرة إلى 140 في المئة"، بحسب تقرير منشور على "مدوّنة بلوم انفست". وعليه، "عرضت بعض البنوك على المودعين سعر فائدة 45 في المئة سنوياً من أجل خفض تكلفة الحصول على الليرة اللبنانية لتغطية النقص لديها، وربما إعادة إقراض المبالغ لبنوك أخرى بـ "أسعار الفائدة بين البنوك".

المخاطر كبيرة

مهارة المصارف في الاستفادة من الفرص التي تولدها الأسواق ولاسيما بحالة التفاؤل، لا تأتي من دون مخاطر"، بحسب التقرير، واهمها:

- احتمال مواجهة البنوك مخاطر السيولة. فقد لا يتمكن المودعون من سحب هذه الودائع بالكامل عند الاستحقاق في حال تشدد المركزي بتجفيف السيولة. وهذا من شأنه أن يزيد من خسائر المودعين.

- قد يؤدي هذا الإجراء إلى تعميق مشاكل الميزانية العمومية للبنوك، خصوصاً أنها توقفت عن تقديم القروض للعملاء، وتحتاج إلى استثمار هذه الودائع في استثمارات تولد أرباحاً تتجاوز المعدلات الممنوحة للمودعين.

- إمكانية تكبّد المودعين خسائر إضافية في حال انخفاض قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، على الرغم من أن احتمال حدوث مثل هذا السيناريو منخفض حالياً. إلا ان دراسة لـ "الدولية للمعلومات" تبيّن أن انخفاض سعر صرف الليرة إلى 140 الفا قد يكبّد المودع خسارة 80 دولارا من تثبيت 1000 مليون ليرة لمدة سنة بفائدة 45 في المئة.

تسديد فوائد الودائع بالليرة

لتجنب الفوضى التي قد تنتج عن تراجع سعر الصرف، وهو السيناريو المتوقع حدوثه لو تقيّد لبنان بشروط صندوق النقد الدولي المتعلقة بضرورة تحرير سعر الصرف، يفترض على المصرف المركزي عدم الاعتماد فقط على الكتلة النقدية للسيطرة على توازن سعر الصرف، إنما ايضاً على الفوائد. والأداة الاخيرة كان المركزي قد توقف عن استعمالها منذ الانهيار، إذ اقتصر تدخله في سعر الصرف على التحكم بالمعروض النقدي من الليرات. فيرتفع سعر الصرف مع زيادة انخفاض الكتلة النقدية وينخفض مع ارتفاعها. ويرى تقرير "بلوم" أن بامكان البنك المركزي ــ إذا قرر عدم استخدام أداة سعر الفائدة ــ دفع فوائد البنوك على الودائع بالدولار لدى البنك المركزي ليس بالدولار بل بالليرة اللبنانية، وبالتالي، تزويد البنوك بالسيولة اللازمة.

عودة الكتلة النقدية للارتفاع

الآمال بانحسار التأثيرات السلبية للطلب المتزايد على الليرة، قابلها ارتفاع الكتلة النقدية بالليرة المتداولة. فقد أظهرت موازنة مصرف لبنان الاخيرة للنصف الثاني من كانون الاول الماضي، ارتفاع بند "العملة المتداولة خارج مصرف لبنان"، من 55 ألفا و810 مليارات ليرة، إلى 65 ألفا و563 مليار ليرة. وهو ما يدل على أن مصرف لبنان عاد إلى ضخ الليرات في السوق. وبغض النظر عن السبب الذي قد دفعه لذلك فان عودة الكتلة النقدية بالليرة للارتفاع تهدّد بشكل جِدّيّ بتقويض السياسة النقدية التي اتبعت على مدار الأشهر الماضية، وتسبّب عودة التضخم وخسارة المواطنين، ولاسميا الفئة التي حولت ما تملكه من دولارات إلى ليرات.

ضعف احتمال ارتفاع سعر الصرف

إضافة إلى عودة مصرف لبنان إلى طبع الليرات، هناك عوامل عديدة ستمنع ارتفاع سعر صرف الليرة مقابل الدولار، حتى بعد تشكيل حكومة "تكنوقراط" والبدء بالاصلاحات، ومنها دولرة الاقتصاد بنسبة تفوق 90 في المئة، إذ يقدّر أمين عام هيئة التحقيق الخاصة – وحدة الإخبار المالي اللبنانية عبد الحفيظ منصور حجم الاقتصاد النقدي بحوالي 14 مليار دولار، من أصل ناتج لا يتجاوز 21.5 ملياراً بحسب ارقام البنك الدولي. ومنها أيضاً الحرص على منع المضاربة على الليرة والعمل على عدم تراجع ايرادات الدولة من الضرائب والرسوم. يضاف إلى هذه العوامل الخشية من ألا يؤدي تحسن سعر الصرف إلى تراجع الاسعار بنسب موازية، ما يمثل ضريبة جديدة على المواطنين.

كان الرعان في الفترة الماضية على استثمار انتظام الحياة السياسية لحث المواطنين على ضخ الدولار في السوق مقابل حاجة الدولة الماسة إلى التوسع بالانفاق بالليرة بعد الحرب. ويعلم المسؤولون أن هناك ما بين خمسة وستة مليارات دولار على الأقل، مخزّنة في المنازل و"تحت المخدات". وعلى الرغم من كون هذه المبالغ تمثل آخر "خميرة" يحتفظ بها اللبنانيون، فان "الأعين" ما زالت عليها، حتى قبل استقرار الوضع الاقتصادي، وعلم المسؤولين أن استعمالها لن يكون مجدياً للمواطنين والاقتصاد. وهذا ما يمثل قمّة "المقامرة" في اقتصاد ما زال يعمل بطريقة "الكازينو".