مع انتخاب الرئيس جوزاف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية، تعود الآمال بعودة هذا المرفأ إلى دوره المُفترض وهو مُحرّك أساسي للاقتصاد اللبناني. وبالتالي فإن إعادة تأهيل هذا المرفأ سيُشّكل رافعة أساسية للاقتصاد اللبناني.
لمرفأ بيروت أهمّيّة استراتيجية كبرى على الصعيدين الاقتصادي أو الاجتماعي. وإذا كانت الحركة التجارية تمرّ عبره بشكل أساسي في القرن السابق حتى وصلت إلى أكثر من 80% من حجم التجارة مع الخارج في فترة ما قبل الأزمة، فإن دوره المُتوقّع في السنوات القادمة قد يكون كبيرًا جدًا إذا ما أحسنت الحكومة وضع خطّة لهذا المرفأ الذي يمتلك دورًا محوريًا.
تاريخيًا، يُعتبر مرفأ بيروت رئة الاقتصاد اللبناني إذ إنّ غالبية التجارة مع الخارج كانت تمرّ عبره مع قدرته على استيعاب السفن الكبيرة والتعامل مع حمولاتها بفضل اللوجستية الموجودة فيه. وكسب هذا المرفأ بعدًا استراتيجيًا في الماضي مع لعبه دور البوابة الاقتصادية للخليج العربي. وخلال الحرب السورية لعب دور المنصة اللوجستبية للاستيراد السوري. وبالتالي فقد استحق صفة المرفأ الاستراتيجي في التجارة البحرية الإقليمية. وجاء الفساد ليعبث بإيرادات هذا المرفأ على مرّ السنين دون وجود حسيب أو رقيب. ولعلّ تفجير مرفأ بيروت في العام 2020 هو أكبر مثال على هذا الفساد الذي شكّل ضربة كبيرة للاقتصاد اللبناني (لا يجب نسيان الأرواح البشرية التي لا تُقدّر بثمن) وخسر لبنان ماليًا الكثير بسبب هذه الجريمة.
مع انتخاب الرئيس جوزاف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية، تعود الآمال بعودة هذا المرفأ إلى دوره المُفترض وهو مُحرّك أساسي للاقتصاد اللبناني. وبالتالي فإن إعادة تأهيل هذا المرفأ سيُشّكل رافعة أساسية للإقتصاد اللبناني كما سنُظهره بالأرقام لاحقًا. ومن أهم النقاط الإيجابية لإعادة التأهيل يُمكن ذكر التعافي الإقتصادي والنمو حيث أن تطوير المرفأ والإستثمار فهي سيُشكّلان محرّكا للنمو الإقتصادي مع ضخّ مليارات الدولارات مباشرة أو غير مباشرة في والقطاه وفي القطاعات الداعمة له. وهذا الأمر يحظى باهتمام كبير من قبل بعض الدول مثل فرنسا وألمانيا والصين ودول أخرى لم تُظهر نواياها بشكل صريح خصوصًا مع بدء ظهور مؤشرات لإعادة إعمار سوريا لأنه سيكون لمرفأ بيروت دور محوريّ على الصعيد اللوجستي. أيضًا سيُعيد بناء هذا المرفأ وتطويره لبنان إلى ساحة التجارة الدولية نظرًا إلى موقعه الاستراتيجي في المسارات التجارية البحرية الإقليمية. وستُساهم إعادة تأهيل هذا المرفأ في تعزيز سلاسل التوريد للبنان وللمنطقة وسيتمّ خلق وظائف جديدة بشكل مباشر في المرفأ أو في القطاع الخاص، خصوصًا إذا ما تمّ إعتماد الشراكة بين القطاعين العام والخاص وهو ما يزيد حكمًا كفاءة المرفأ، والشفافية في عملياته، وإيراداته. واستخدام التكنولوجيا والطاقة المُتجدّدة في عملية التأهيل هذه، سيؤدّي حكمًا إلى تدعيم هذا الأمر.
سيناريو تشاؤمي يتصوّر استمرار عدم الإستقرار السياسي والأمني واستمرار الفساد
ولكنْ في المقابل، سيكون هناك عوائق كثيرة وعلى رأسها بالطبع الإصلاحات والاستقرار، وهي شرط دولي لحصول لبنان على أيّ مساعدات دولية أو القيام بإستثمارات مباشرة علمًا أن كل هذا سيكون تحت النفوذ الغربي نظرًا إلى مُعطيات الأحداث الأخيرة في المنطقة. وبما أن هناك كارتيلات كانت تستفيد من المرفأ، لذا ستشهد محاولات الإصلاح في إدارة المرفأ وطريقة التسعير والرسوم، مُعارضة شديدة من هذه الكارتيلات التي يمتدّ نفوذها إلى الملعب السياسي. الجدير ذكره أن تبسيط العمليات التجارية على المرفأ من خلال التكنولوجيا ورفع مستوى معايير السلامة والجودة ستحوّل هذا المرفأ إلى منافس شرس للمرافئ الأخرى في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
تنقسم مُساهمة المرفأ في الناتج المحّلي الإجمالي إلى قسمين:
- مساهمة مباشرة من خلال التجارة إذ يمرّ عبره ما بين 70% إلى 80% من الإستيراد بالإضافة إلى أكثر من 50% من الصادرات (تخطّت الـ 90% في العام 2015 مع إقفال الطريق البرية مع سوريا والأردن) وهو ما يعني رسوما جمركية ورسوما إدارية وضرائب على السلع والبضائع المستوردة والمُصدّرة. أيضًا تتضمّن المساهمة المباشرة التوظيف في المرفأ للأعمال اللوجستية والإدارية والدعائية، بالإضافة إلى الإيرادات التي وصلت إلى ما بين 170 إلى 200 مليون دولار أميركي سنويًا وكان لبنان ليحصل على أكثر من ذلك بكثير لولا الفساد المُستشري.
- مساهمة غير مباشرة من خلال الخدمات اللوجستية والنقل والتخزين ومن خلال خدمات القطاعات الداعمة (توزيع، تعليب، مصارف، شركات تأمين، مكاتب محاماة، لوجستية) وهو ما يؤدّي إلى تضاعف المساهمة بشكل غير مباشر. أضف إلى ذلك البنى التحتية التي يتمّ بنائها في محيط المرفأ أو في الشركات لتسهيل العملية التجارية.
وبالتالي فإن إعادة تأهيل المرفأ ستزيد حكمًا الناتج المحلّي الإجمالي من خلال الإستثمارات وزيادة التجارة وجذب شركات أجنبية مُهتمّة بإعادة إعمار سوريا وتطوير التبادل التجاري الإقليمي. من هذا المُنطلق، أخذنا في الإعتبار أربعة سيناريوهات لتطوير مرفأ بيروت وإعادة تأهيل:
السيناريو الأول يُبقي الوضعَ القائمَ مع بعض التحسينات البسيطة، فتُعاد حالة المرفأ إلى ما كانت عليه قبل التفجير مع بعض التحسينات البسيطة. وهذا الأمر سيؤدّي إلى الحفاظ على المستوى نفسه من الناتج المحلّي الإجمالي أو في أحسن الأحوال ستطرأ عليه زيادة بسيطة قد لا تتخطّى الـ 1%. ويحتاج هذا المشروع إلى عام أو أكثر قليلا لتحسينات سريعة (تكنولوجيا مثلًا) وتغييرات بسيطة (عمل الجمارك أو التخزين مثلًا) وأكثر من عامين لتنفيذ مشاريع التحسين.
السيناريو الثاني هو سيناريو تفاؤلي إذ تجرى إعادة تأهيل كاملة مع تحديث للبنى التحتية داخل المرفأ واستخدام التكنولوجيا والطاقة المُتجدّدة وهو ما قد يرفع من قدرة المرفأ الإستيعابية بأكثر من 60% مما كانت عليه قبل الأزمة، مع تخفيف المعاملات الإدارية ومكننة كاملة وزيادة قدرة التخزين... وهذا الأمر قد يرفع الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة قد تفوق الـ 43% على عدّة سنوات. وتحقيق هذا السيناريو يحتاج إلى ثلاث سنوات في مرحلته الأولى للتخطيط والتمويل والبدء بالمشروع، وحتى سبع سنوات لإنهاء المشاريع ودخولها مرحلة العمل، وأكثر من سبع سنوات لحصد القطاف.
السيناريو الثالث هو سيناريو تفاؤلي جدًا ومثالي للبنان ويجب السعي لتحقيقه لأنه يُمكن أن يجعل مرفأ بيروت مركزا إستراتيجيا إقليميا (Regional Hub) تدعمه إتفاقيات تجارية مع الخليج العربي (بالطبع هذا يتطلّب تحولات سياسية في لبنان) ومن خلال شراكة مع لاعبين دوليين بحيث يتلقّى مرفأ بيروت إستثمارات هائلة لهذا الغرض. النتيجة ستكون إرتفاعا مُطّردا للناتج المحلّي الإجمالي مع زيادة بأكثر من 80% على عدّة سنوات.
ويتطلّب تنفيذ هذا المشروع من 10 إلى 15 عامًا منها عامان للتحضير (تخطيط، تمويل، إتفاقيات، تعديل قوانين...) وخمسة أعوام لتنفيذ مشاريع البنى التحتية وتوقيع إتفاقيات تجارية، وأكثر من سبع سنوات لبدء الحصاد.
السيناريو الرابع هو سيناريو تشاؤمي يتصوّر استمرار عدم الإستقرار السياسي والأمني واستمرار الفساد وهو ما سيؤدّي إلى تراجع كفاءة المرفأ العملية في تقديم الخدمات بنسبة لا تقلّ عن 22% وهذه النسبة قد تتزايد نتيجة التراجع في الاستثمارات في المرفأ. هذا السيناريو هو الأسوأ على الإطلاق لأن مرافئ أخرى ستأخذ الدور الذي يعود تاريخيًا لمرفأ بيروت وسيكون من الصعب اللحاق بها! في هذه الحالة سيتراجع الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 17%.
بالطبع هذه الأرقام هي عملية تبسيطية للواقع الإقتصادي المُعقدّ إلا أنها تُعطي صورة واضحة غير قابلة للشك للمسؤولين عن القرار الواجب اتّخاذه في المرحلة المُقبلة.