فرادى وجماعات، لبّى النواب "نداء" الاستشارات النيابية الملزمة، وحضروا منذ الصباح الباكر إلى قصر بعبدا لتسمية الرئيس الذي سيُكلَّف تشكيل الحكومة. الإختلاف على التصويت لأحد المرشحَين الرئيس نجيب ميقاتي والقاضي نواف سلام، قابله اتفاق النواب على ضرورة وجود رئيس حكومة "يمدّ يده" لخطاب القسم الواعد، ويساعد الرئيس على رفع البلد من قعر الإنهيار الواقع فيه منذ خمس سنوات. وفي حين يجهل بعض النواب المؤيدين لسلام شكل الرافعة التي قد يعتمدها، ولو انهم يتوقعونها على شكل ميزان، سوّق البعض الآخر من النواب، أن رافعة ميقاتي الأساسية ستكون تجنيب البلد أزمة حكم جديدة، لأنها "لن تكسر فريقاً على حساب فريق آخر"، على حد تعبير النائب الياس أبو صعب الذي كان أول الواصلين والخارجين، من دون تسمية أحد.

الإنصاف في الحلول بدلا من أنصافها

من الناحية الاقتصادية الصرف "لا نعلم شيئاً عن النهج الذي قد يعتمده القاضي نواف سلام"، يقول الناشط الحقوقي الدكتور جاد طعمة. "إلا أننا نعرف حق المعرفة أن النهج الذي كان سائداً سابقاً لم يحقق خرقاً واحداً إيجابياً في الأزمات الاقتصادية والنقدية والمالية والمعيشية الضاغطة التي يعيشها اللبنانيون. بل على العكس، شهدنا على استفحال الأزمات، من تحليق سعر صرف الدولار إلى 140 ألف ليرة، مروراً بتقديم ثلاث خطط اقتصادية أتت جميعها على حساب المودعين، وصولاً إلى تفشيل الاتفاق المبدئي على صعيد الموظفين مع صندوق النقد الدولي، وانحلال الدولة وإفلاسها". ولم تؤدِّ أنصاف الحلول، القائمة على نظرية "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم"، إلا إلى انتشال الاقتصاد من مأزقة الذي تعمّق بعد العام 2019، "الأمر الذي يشجعنا على المطالبة والتأمل خيراً بالشكل والنهج الجديد للحكم".

المهم في توجّه الحكومة القادمة ألا تحمّل "فجوة الودائع (مقدَّرة بأكثر من 76 مليار دولار) للطرف الاضعف، من دون مساءلة أو محاسبة المرتكبين، ومنهم المصارف ومصرف لبنان والحكومات المتعاقبة"، برأي شيخاني. "وذلك من أجل إبعاد كأس الـ "هيركات" المرّ بنسبة تصل إلى 80 في المئة في كل ما كان يطرح من خطط سابقة، عن المودعين. ثانياً، العمل على تحقيق الإنصاف وليس فقط المساواة بكل ما يطرح من إجراءات مالية متعلقة بالضرائب والرسوم، وخطط اجتماعية مرتبطة بتوزيع المساعدات ومافحة الفقر، وسياسات نقدية متعلقة بكيفية إعادة الودائع ومصير سعر الصرف".

المساعدة على تطبيق خطاب القسم

التوجه الاقتصادي الصائب في خطاب القسم، الذي حاز ثناء وتهنئة المجتمع الاقتصادي بتنوع أطيافه من عمّالية وأرباب عمل، والأمل بتشكيل حكومة قادرة بناء على تسمية شخص الرئيس، لا يكفيان للانطلاق بالإصلاحات وتنفيذها. وهما يتطلبان توافق كل القوى وتضافر الجهود لإنجاح المسيرة، خصوصا في ما خص بندين مفصليّين تناولهما الرئيس المنتخب، وهما:

- "إعادة هيكلة الإدارة العامة، واعتماد المداورة في وظائف الفئة الاولى"، وهذا يتطلب اتفاق مختلف القوى السياسية على وقف تقاسم القطاع العام، إدارات وموظفين ومشاريع. فقد كان لكل فئة وزاراتها، ومجالسها، وصناديقها التي توظف فيها المحسوبين عليها، وتحصل على التمويل العام من الموازنات، وتأخذ المشاريع المتنوعة بالصفقات والتلزيمات.

- "تأسيس إدارة حديثة إلكترونية رشيقة فعالة وحيادية لا حصرية ولا مركزية تحسن إدارة اصولها (..) تحمي المستهلك وتمنع الهدر وتفعّل أجهزة الرقابة". وهذا الشرط بالتحديد يتطلب الاتحاد خلف مشروع مكافحة الفساد والافصاح من أعلى المستويات والشفافية، وتحصين الإدراة والعمل على زيادة مواردها . فالدولة على سبيل الذكر لا الحصر تماطل منذ العام 2016، باتمام المرحلة الثالثة والأخيرة، التي تتعلق بحماية خصوصية المعلومات في "إتفاقية التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية" (CRS)، وذلك من بعد تمرير التشريعات الضرورية بين العامين 2015 و2016 من ضمن ما عرف بقوانين الضرورة المالية، ولا سيّما القانون 43 الذي عُدّل بالقانون 55. والقانون 44 الذي عَدّل القانون 318/2001 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ومن شأن البدء بتطبيق هذه الاتفاقية توقف وزارة المالية عن العمل باتجاه واحدONE WAY ، أي تزويد الدول المشاركة بكل المعلومات عن حسابات مواطنيها وأصولهم ونشاطهم الاقتصادي في لبنان. ويصبح بامكانها استقاء المعلومات من هذه الدول عن البيانات المالية للبنانيين في الخارج بشكل تلقائي أو غبّ الطلب. وهذا ما يعد حجر الزاوية بكشف كل عمليات التهرب الضريبي المقدَّر بمليارات الدولارات وملاحقة المخالفين، ومطالبة اللبنانيين بدفع الضرائب عن نشاطهم الاقتصادي في الخارج. وهو ما يشكل مصدر دخل وفيرا جداً للخزينة، خصوصاً مع حجم أعمال اللبنانيين في الخارج وحساباتهم المصرفية. ومثل هذه الاتفاقية، هناك عشرات القوانين الاصلاحية التي تتطلب وضع آلياتها التنفيذية والبدء بتطبيقها.

التعطيل وارد

أهمية تشكيل حكومة مستقلة بوجوه جديدة ورؤية عميقة قادرة على المحاسبة والمساءلة وتطبيق القوانين، تثير خوف البعض من "خلق أزمة عامودية". فعلى الرغم من مؤهلات القاضي سلام الكبيرة، وسمعته الممتازة، قد يتعرض للعديد من العراقيل، حتى أن خشية النواب وصلت إلى حد التخوف على اللحمة الوطنية. فقد أوضح النائب ميشال ضاهر أنه "اختار نواف سلام، مع الأمل ألا يكون ذلك مناقضاً للعيش المشترك، وأن تكون كل مكوّنات البلد الى جانبه إذا وصل". لكنّ الدكتور جاد طعمة يرى أنّ "الخشية على عدم السماح لنواف سلام بالحُكم، خلافاً لرغبة فريق من اللبنانيين ينطبق على أي شخصية". وهناك كارثة اسمها الديمقراطية التوافقية يجب "هز عرشها"، "لأننا في حال العكس سنبقى أسرى هذا النهج الخاطئ، ولن نسير في اتجاه بناء الدولة".

العدالة تكفي

عدم معرفة العامة والخاصة بالنهج الذي قد يعتمده سلام، يجب ألا يثير الخشيه منه، بل العكس، بحسب شيخاني، إذ "يكفي أنه قاض ورئيس محكمة العدل الدولية وهي أعلى وكالة قضائية في هيئة الامم المتحدة، لنتأكد انه سيكون عادلاً، ولا سيّما لجهة حفظ حقوق المودعين وبقية المواطنين. وإن كان ليس صاحب دراية واسعة بالشأن الاقتصادي، فمن المتوقع أن يكون محاطاً بمستشارين أكفاء وبفريق عمل يشبهه، لمعاونته ورئيس الجمهورية، على حل أزمة هي الأعقد في تاريخ البلاد".

حكومة بصلاحيات تشريعية

الحقوقيون يقترحون في هذه المرحلة بالذات تفويض الحكومة برئاسة سلام صلاحية استثنائية للتشريع، خصوصاً أن المهام الملقاة على عاتق هذه الحكومة ليست كبيرة فحسب، بل تتطلب السرعة القياسية سواء في إعادة هيكلة المصارف، أو إقرار القوانين الاصلاحية والتنظيم المالي، والجمركي، وقبول الهبات والمساعدات، وإعادة الإعمار وتنفيذ المسوحات البرية والبحرية وترسيم الحدود، وغيرها الكثير من الأمور الطارئة والتي لها صفة العجلة. وبهذه الطريقة يجنوبنها العرقلة النيابية والتأخير في درس مشاريع القوانين وإقرارها بشكل منقوص أو خاطئ. ولا خوف على الشفافية ما دامت الحكومة موضع مراقبة من الرئيسين ومن الهيئات الرقابية، ومجلس النواب التي يستطيع مساءلتها ساعة يرى واجباً لذلك.