طارق ترشيشي

خلافاً لكلّ ما يشاع من هنا أو هناك، فإنّ الاهتمام بالملفّ اللبناني متقدم بقوّة لدى العواصم العربية والأجنبية، منذ ما قبل الاتفاق السعودي ـ الإيراني، وقد تصاعدت وتيرته بعده، وهو الآن يسير في موازاة الخطى التي تخطوها الرياض وطهران ضمن مهلة الشهرين المحددة للبدء بتنفيذ اتفاق بكين والتي بدأت يوم الجمعة بتاريخ 10 آذار 2023، وكذلك يسير على وقع بعض الاستحقاقات الداخلية اللبنانية والتي منها موعد انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في تموز المقبل.

أحد المؤشرات على تصاعد الاهتمام، كان زيارة الموفد القطري وزير الدولة في وزارة الخارجية محمد عبد العزيز الخليفي، والتي كانت استطلاعية خلافاً لما روج البعض من الجهات التي التقاها ومن المراقيبن والمتابعين، خصوصاً أنّها جاءت غداة عودة رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية من باريس، حيث كان له في قصر الاليزيه بعض اللقاءات التي صبّت في صميم الاستحقاق الرئاسي.

ويقول أحد الاقطاب الذين التقاهم الخليفي في جولته الاستطلاعية التي دامت يومين، أنّ حركة الموفد القطري هي جزء من حراك مجموعة اللقاء الخماسي الذي اجتمع في 6 شباط الماضي في باريس، وضمّ ممثلين عن الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والمملكة العربية السعودية ومصر وقطر، ويهدف هذا الحراك إلى تكوين "وجهة نظرمباشرة وتقنية ازاء الوضع اللبناني" وذلك من خلال الالتقاء بجميع الأفرقاء المعنيين بالاستحقاق الرئاسي والاستماع إلى آرائهم.

ويضيف هذا القطب أنّ الخليفي كان مستمعاً، ولم يقدّم أيّ طروحات أو أفكار، وأكّد للذين التقاهم "أنّنا في اللقاء الخماسي لم نقارب الأسماء، ولا التفاصيل المتعلّقة بالموضوع الرئاسي، وقد تركنا المجال لكل منّا أن يكوّن رؤية لحلّ للأزمة اللبنانية يحمله إلى اللقاء المقبل الذي سينعقد قريبا".

وترجّح المعلومات أن ينعقد هذا اللقاء الخماسي بعد شهر رمضان، وأنّ مكان انعقاده لم يحسم بعد بين أن يكون في باريس مجدداً أو في الرياض أو في القاهرة، حيث سيوضع مقاربة موحّدة لحلّ الأزمة اللبنانية وطرحها أمام الأفرقاء اللبنانيين مباشرة، حتى إذا قبلت تنطلق الآليات لتنفيذها.

ويشير مصدر واكب جولة الخليفي اللبنانية أنّ بقية دول مجموعة الخمسة ومنذ الاجتماع الخماسي الأول تجري بدورها استطلاعاتها، فمساعدة وزيرة الخارجية الأميركية باربرا ليف ومعها السفيرة الأميركية دوروثي شيا، أجرتا وتجريان استطلاعاتهما مع المسؤولين والقوى السياسية المعنية بالاستحقاق الرئاسي، وكذلك يفعل السفير السعودي وليد البخاري  والسفيرة الفرنسية آن غريو والسفير المصري ياسر علوي، وذلك إلى جانب ما يحصل من لقاءات في عواصم بلدانهم،  تتناول الشأن اللبناني وكل ما يدور على ساحة المنطقة بعد الاتفاق السعودي ـ الإيراني برعاية بكين.

 وقد دارت الأسئلة التي وجهها الخليفي إلى المسؤولين ورؤساء الكتل والأحزاب الذين التقاهم حول الاستحقاق الرئاسي ومواصفات رئيس الجمهورية العتيد، تركيبة الحكومة الجديدة ومواصفات رئيسها ووزرائها، والإصلاحات البنيوية المطلوب تنفيذها سياسياً واقتصادياً ومالياً وإدارياً لوقف الانهيار الذي يعيشه لبنان، وكان مساعدوه ينظّمون محضراً بكل لقاء، ولم يبد أي وجهة نظر تعقيباً على الأجوبة، وإنما كان من حين إلى آخر يستفسر ويستوضح أكثر إذا وجد الجواب منقوصاً.

ولكن ما إن غادر الرجل والوفد المرافق بيروت، حتى بدأت التسريبات من هنا وهناك حول طبيعة مهمته وما سمعه من الأفرقاء الذين التقاهم، ليتبين أنّ كثيراً مما سُرّب لم يكن صحيحاً، خصوصا أنّ غالبية الذين التقاهم تكتّموا على ما دار بينه وبينهم. وكان من التسريبات التي وجد البعض فيها تخريباً على مهمة الخليفي وكذلك على المناخ الإيجابي العام الذي أرخاه الاتفاق السعودي الإيراني، أنّ افرقاء تمسّكوا بترشيحاتهم الرئاسية وأنهم ليسوا في وارد التنازل، أو أنّهم يرفضون أي مرشّح من فريق معين، فيما البحث لم يدخل في الأسماء بدليل أنّ بعض اللقاءات كانت مفتوحة ولم تتخللها خلوات ثنائية بين الخليفي ومن التقاهم.

وقد فوجئ البعض أنّ الخليفي التقى فرنجية في بنشعي، بعدما كان البعض سرّب أنّه لن يلتقيه لاعتقادهم أنّ زيارة الأخير لباريس "لم تكن موفقة"، فيما أوساطه أكّدت عكس ذلك وأنّ "للبحث صلة".

كذلك فوجئ البعض أنّ الخليفي لم يلتق بأي من النواب السنّة ضمن كتلة نيابية أو مستقلّين، وانما اكتفى بلقاء رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، وكان الملفت لقاؤه مع وزير الاقتصاد أمين سلام من دون أن تعرف طبيعة هذا اللقاء الذي بدا وكأنه علامة فارقة في جولته الاستطلاعية.

وسجل المتابعون لزيارة الخليفي أنّ فريق المعارضة كان همّه التأكيد أمامه أنه متمسك بوجوب انتخاب "رئيس سيادي انقاذي" ورفضه أي مرشّح ينتمي إلى الفريق الآخر وخصوصا سليمان فرنجية، فيما سمع من آخرين اقتراحا باللجوء إلى "خيار ثالث". علما أنّ "الثنائي الشيعي" لم يخف أمام الخليفي دعمه لترشيح فرنجية، ولكنّه أكّد في الوقت نفسه تحبيذه أن يقدّم الفريق الآخر المعارض لفرنجية مرشّحه أو مرشّحيه الجديين لتخاض المعركة الانتخابية ديموقراطياً وليفز فيها من يفوز، ويكون في ذلك مخرج طبيعي للاستحقاق الرئاسي بعيداً عن منطق التحدي والتشنج والاصطفاف السياسي والطائفي الذي يزيد الأزمة تعقيداً ويؤخّر انجاز الاستحقاق الرئاسي وتكوين السلطة التي تقع على عاتقها مسؤولية إنقاذ البلاد من الانهيار.

وتفيد المعلومات أنّ الخليفي خرج عن نصّ مهمته قليلاً، مستطلعاً امكانية أن تلعب بلاده دوراً مستقبلاً في لبنان، وذلك على خلفية دورها في رعاية التوصّل إلى اتفاق الدوحة عام 2008، فسمع ثناء على الدور القطري وما تقدّمه بلاده من مساعدات خصوصاً للجيش اللبناني، ولكن الظروف الراهنة مختلفة تماماً عن ذي قبل في ضوء تعاظم الدور السعودي. إلّا أنّ الرجل لم يطرح أفكاراً محدّدة لأنه يدرك حدود مهمته المنسّقة مع الجانب السعودي تحديداً.

وفي أيّ حال، فإنّ الجميع ينتظرون عودة السفير السعودي، في ظلّ معلومات تتحدث عن أنّه لن يعود قبل عيد الفطر، ما يعني أن لا شيء عملياً متوقعاً قريباً على صعيد الاستحقاق الرئاسي، وأنّ على الجميع انتظار انعقاد اللقاء الخماسي الثاني أيّاً كان مكانه، لأنّ المرجّح له أن يحدّد الخطوات اللاحقة في شأن لبنان الذي ضُبط على توقيت تنفيذ الاتفاق السعودي ـ الإيراني، والذي سيكون محور بحث غداً في بكين بين وزيري خارجية البلدين.