طارق ترشيشي
لن يتوقف في لبنان سيل التحليلات والتفسيرات والتوقعات حيال الاتفاق السعودي ـ الايراني على تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران، حيث ينصرف الأفرقاء اللبنانيون المتنازعون إلى تفسيره كل بما يتلاءم مع توجهاته وأهوائه وأهدافه السياسية في خضم المعركة الشديدة الدائرة بينهم حول الاستحقاق الرئاسي، فيما الخطوات تتسارع بين طرفي الاتفاق لتنفيذه وفق أجندتهما أولاً قبل أي أجندات أخرى، حتى ولو كانت اللبنانية حصراً.
ومن المفارقات أن عدداً من الأفرقاء راحوا يضعون الاتفاق في ميزان الربح والخسارة بين طرفيه، فبعضهم قال أن المملكة العربية السعودية بادرت إليه مضطرة، أولاً لنزع العقبات من وجه طموحها لأن تكون قوة إقليمية اقتصادية ومالية كبرى، وثانياً لظروف صعبة تمرّ بها نتيجة حرب اليمن ولخلاف بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، ونأياً بالنّفس عن مشروع حرب تعدّها واشنطن وتل ابيب ضد إيران من شأنها أن تتضرّر بنتيجتها، بما يعوق تنفيذ رؤية المملكة 2030.
فيما يذهب بعض آخر من هؤلاء إلى القول أن إيران هي التي بادرت إلى الاتفاق مع السعودية، أولاً لقطع الطريق على ما تخطط له واشنطن وتل ابيب ضدها، وثانياً لأنها تشعر بخطر كبير يتهدد وجود النظام من الداخل نتيجة الاضطرابات التي تشهدها طهران وكثير من المناطق الإيرانية منذ أشهر، فضلاً عما يتهدّدها نتيجة العقوبات الغربية الاقتصادية والمتنوعة والتي تضع الاقتصاد الايراني على حافة الانهيار.
ولكن الأدهى أن هؤلاء الأفرقاء ورغم دعوة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان اللبنانيين إلى التفاهم في ما بينهم على حل للأزمة اللبنانية، وعدم التعويل على الاتفاق السعودي ـ الإيراني، أدخل الأفرقاء اللبنانيون الاتفاق السعودي ـ الايراني في بازار الاستحقاق الرئاسي المفتوح في ما بينهم، فيما لم يرسَ بعد منذ أشهر على اتفاق من شأنه أن يوصل إلى انتخاب رئيس جمهورية جديد.
فالثنائي الشيعي وحلفائه يتوَسمون من اتفاق الرياض وطهران أن يرفع من حظوظ مرشحهم لرئاسة الجمهورية رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، سواء ضمن معادلة انتخابه رئيساً للجمهورية، مقابل تولي القاضي نواف سلام رئيساً للحكومة، أم ضمن معادلة أخرى، وهي معادلة طرحت منذ أشهر ويتمسك بها الجانب الفرنسي على الأقل ويعتبرها "الأكثر واقعية" لإمرار الاستحقاقات اللبنانية على قاعدة "ما لا يدرك كلّه يدرك جلّه" على طريق تخليص البلاد شيئا فشيئاً من المنظومة السياسية التي أوصلت البلاد إلى الانهيار.
وفي المقابل فإن فريق المعارضة بادر منذ لحظة الإعلان عن "اتفاق بكين" إلى التأكيد انه أطاح بمعادلة سليمان فرنجية ـ نواف سلام، وأنه يمهّد لمعادلة جديدة عنوانها انتخاب "رئيس سيادي انقاذي" من خارج المنظومة السياسية القائمة، وذهب هذا الفريق إلى الجزم بأن السعودية تضع "فيتو" صارم على فرنجية لأنها تعتبره مرتبطاً بـ"حزب الله"، وحاول هذا الفريق إقناع الرأي العام بالإيحاء أن حركة السفير السعودي وليد البخاري في اتجاه رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وآخرين إثر إعلان الاتفاق، دلّت إلى وجود هذا "الفيتو" السعودي. في حين تفيد المعلومات أن البخاري الذي قطع حركته ليسافر على عجل إلى الرياض، إنما أقدم على ذلك على أثر اتصال حصل بين القيادة السعودية وفرنجية، وما تقرّر بعده من لقاء عاجل في باريس بين المسؤولين السعوديين والفرنسيين المكلفين الملف اللبناني، وهذا اللقاء انعقد أواخر الأسبوع الماضي في قصر الاليزيه، وضم مستشار الرئيس الفرنسي باتريك دوريل والسفيرة الفرنسية في لبنان آن غريو عن الجانب الفرنسي، والمستشار في الديوان الملكي السعودي الدكتور نزار العلولا والسفير البخاري.
ولم يكن الاجتماع قد انتهى إلى اتفاق بين الجانبين على اجتماع آخر، حتى راح فريق المعارضة يشيّع أن خلافاً حصل بين الجانبين الفرنسي والسعودي، وأن الرياض رفضت معادلة سليمان فرنجية - نواف سلام، وأن فرنجية استبعد من حلبة الترشيح الرئاسي لرفض السعوديين له، ورفضهم لنواف سلام أيضاً، في حين لم يصدر عن الثنائي الشيعي المتمسك بفرنجية أي تعليق على ما يشاع عن اجتماع باريس، الذي لم يصدر عنه أي بيان أو موقف رسمي فرنسي أو سعودي.
مصدر مطّلع على ما حصل في اجتماع باريس أشار إلى أن المجتمعين يدركون تمسك "الثنائي الشيعي" وحلفائه الصارم بدعم ترشيح فرنجية، وأنّهم ليسوا في وارد التراجع عنه لكثير من الاعتبارات الداخلية والخارجية، وأن الجانب السعودي لم يبدِ صراحة أي رفض له، ولكنه ركّز على أن تكون هناك ضمانات صارمة ومحكمة الالتزام بها، وهي تتصل أولاً بأن يتصرف رئيس الجمهورية على أساس أن يكون للجميع وغير منحاز لطرف بعينه، وأن يلتزم اتفاق الطائف واستكمال تطبيقه وتصحيح ما طُبّق منه، وأن يلتزم أيضا أن لا يكون لبنان منصة للتصويب على المملكة وبقية دول الخليج العربي، وأن يتم اقفال المنابر الاعلامية الحوثية وغيرها المعادية لهذه الدول والعاملة على الاراضي اللبنانية، فضلاً عن طرد الموجودين في لبنان من معارضين سعوديين وحوثيين وغيرهم، إضافة إلى الاستمرار في ما هو متخذ من إجراءات لمنع تهريب المخدّرات على أنواعها من لبنان إلى السعودية وكلّ دول الخليج. كل ذلك معطوفاً على الحفاظ على عروبة لبنان وإبعاده عن المحاور التي تبعده عن محيطه العربي، بما يعيد له دوره الإيجابي والبنّاء وخاصة كونه من الدول المؤسسة لجامعة الدول العربية.
ويشير المصدر المطّلع نفسه إلى أن الجانب السعودي والفرنسي كانا تلقيا هذه الضمانات شفهياً من "الثنائي الشيعي" وحلفائه الذين أكّدوا أن زمن التعطيل قد ولّى، وأن البلاد لا تتحمل أي تعطيل، بل تتطلب تعاون الجميع وتعاليهم عن الخلافات لإنقاذ لبنان من الانهيار.
ويرى المصدر أن شهر رمضان سيشهد كثيراً من التحوّلات الإيجابية على مستوى العلاقة السعودية ـ الإيرانية، وكذلك على مستوى بقية الملفات الاقليمية المفتوحة، وفي المعلومات أن الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي سيلبي الدعوة التي وجهها إليه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لزيارة الرياض قريباً، على أن زيارة رئيسي للسعودية ستحظى بمراسم خاصة ومميزة ومن ضمنها زيارته لمكة المكرمة والمدينة المنورة.
في أي حال، فإن الوضع الداخلي مُقبِلٌ على مزيد من التفاعل سلباً وإيجاباً إزاء الاستحقاق الرئاسي سواء بالتوافق على رئيس توافقي، أو الذهاب إلى خوض المعركة الانتخابية ديموقراطياً. وفي هذا السياق تأتي "الرياضة الروحية" التي دعا البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي النواب المسيحيين اليها في الخامس من نيسان المقبل في "بيت عنيا" في حريصا، بمثابة تمهيد للمناخ المسيحي العام لتقبّل ما ستشهده جبهة الاستحقاق الرئاسي في ضوء التداعيات والتطورات الناجمة من الاتفاق السعودي ـ الايراني، حتّى لا تأتي التسويات التي سيفرضها ذلك الاتفاق على حساب هذا الفريق أو ذاك، فيما المطلوب الاستعداد لملاقاتها بما يساعد لبنان على الخروج من حال الانهيار.