طارق ترشيشي

خرج كثيرون ممن قرأوا اتفاق تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران برعاية الصين باستنتاج مفاده أن هذا الاتفاق عبّر عن واقعية القيادتين السعودية والإيرانية وإدراكهما أولاً لمصلحة بلديهما في ظل هذا العالم المتغيّر، وثانياً أنه سيريح المنطقة ويُخرجها من جو النزاع الطائفي والمذهبي المقيت. فيما وجد آخرون فيه رغبة لدى كل من الرياض وطهران في إمرار المرحلة بأقلّ خسائر ممكنة، إلى حين انتهاء الحرب الروسية ـ الأوكرانية وما ستتركه من تداعيات وانعكاسات على الساحتين الإقليمية والدولية...

هذا الاتفاق السعودي ـ الايراني، يراه سياسي مخضرم من أهم التّطورات التي حصلت في المنطقة منذ فترة طويلة، وقد أدّى وسيؤدي إلى تزعزع كثير من الاصطفافات فيها. فالرياض أدركت أن مصلحتها هي في التفاهم مع طهران بدلاً من الخصومة والعداوة، وإيران أدركت في المقابل أن ليس من مصلحتها الخلاف مع العرب، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية بما لها من ثقل كبير عربي وإسلامي ودولي. إلّا أنّ الأهم من كل شيء هو أن الرياض تفاهمت مع إيران برعاية الصين، وفي ذلك خطوة تعكس استقلالية عن النفوذ الأميركي، ما يدل إلى أنها تخطو خطوات واسعة فيها شيء من الاستقلالية عن واشنطن التي لم تعد في نفوذها السابق في المنطقة وعالمياً. فما حصل هو بمثابة "صفعة ثانية" سدّدتها الرياض لواشنطن، بعد الصفعة التي سدّدتها لها العام الماضي خلال زيارة الرئيس الأميركي جوزف بايدن للعاصمة السعودية، والتي سعى خلالها لإقناعها بزيادة انتاج النفط لتعويض الأوروبيين النقص الروسي الذي تسببت به الحرب الروسية ـ الأوكرانية، كذلك سعى إلى إقامة تحالف عربي ـ إسرائيلي في مواجة إيران، لكنه فشل في الأمرين يومها وغادر الرياض خالي الوفاض...

واذ يسأل هذا السياسي الواسع الاطلاع على شؤون المنطقة عما سيكون عليه ردّ الفعل الأميركي على الاتفاق السعودي ـ الإيراني المفاجئ، يقول أن الموقف الأميركي الفعلي هو الذي عبّرت عنه ردود الفعل الإسرائيلية التي وصفت هذا الاتفاق بـ"الكارثة الكبرى"، محمّلة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المسؤولية. فالأميركيون ومعهم الاسرائيليين بنوا استراتيجيتهم في المنطقة منذ القرن الماضي وحتى اليوم، على سياسة "فرّق تسد" عبر إغراق المنطقة في نزاعات طائفية ومذهبية وفي حروب وصدامات بين دولها وشعوبها. ولذلك فإن السياسي نفسه يرى أن الاتفاق بين الرياض وطهران هو خطوة تسجّل لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لأنها تؤكّد استقلالية المملكة العربية السعودية عن التبعية الأميركية، وبالتالي فإنه سيكون لهذه الخطوة انعكاساتها الإيجابية على اليمن ولبنان وسوريا، وربما ستكون في مصلحة دعم ترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية اللبنانية. ومن المتوقع أن يلعب رئيس مجلس النواب نبيه بري دوراً بارزاً في هذا الاتجاه، خصوصاً أن العلاقة بينه وبين الرياض لا تشوبها شائبة، وكذلك علاقته مع طهران.

ويعتقد السياسي أن "اتفاق بكين" يؤكّد أن المنطقة بدأت تخرج من النفوذ الأميركي، وأن ولي العهد السعودي أقدم على إنجاز هذا الاتفاق بعد أن حصّن نفسه داخلياً، بما يمكّنه من السير به بقوة وثبات في علاقاته وتعاملاته العربية والإقليمية والدولية، ولذلك يمكن القول أنه "بات يوجد في المنطقة الآن "ممانعتان" في مواجهة النفوذ الأميركي: ممانعة من نوع المقاومة التي تعبّر عنها إيران والدول والقوى الحليفة لها. وممانعة إيجابية تعبّر عنها السعودية وبقية دول الخليج على طريقتها.

ويقول السياسي المخضرم أن "اتفاق بكين" هو حلقة من مسار بدأته القيادة السعودية في "أوبك بلاس" ومن ثم في ما حصل خلال زيارة بايدن الشهيرة للرياض، وبعدها زيارة الرئيس الصيني لها والتي تخلّلها انعقاد قمة عربية – صينية إلى جانب القمة السعودية ـ الصينية.

فرع من "النووي"

وفي المقابل يعتبر ديبلوماسي مطّلع على الموقف الأميركي، أن اتفاق بكين بين الرياض وطهران بما احتواه هو فرع من الاتفاق النووي الذي كانت طهران تتفاوض عليه مع مجموعة دول (4+1). واشنطن خرجت منه يومها لأنها أرادت أن يضمّ إليه ملف الصواريخ البالستية، وموضوع التدخل الإيراني في شؤون دول الجوار ودعمها للقوى المسلحة فيها من "حزب الله" في لبنان إلى حركة "انصارالله" في اليمن و"الحشد الشعبي" في العراق.

ويقول هذا الديبلوماسي أن "اتفاق بكين" فَصَلَ بين الملف النووي وبين ملف الصواريخ البالستية وتدخل إيران في شؤون دول الجوار. وفي رأيه أن هذا الاتفاق سيؤدّي لاحقاً إلى استئناف المفاوضات في الملف النووي بين إيران ومجموعة الدول الاربعة او الخمسة زائد واحد.

وأكثر من ذلك، يرى الديبلوماسي نفسه، أن أهمية هذا الاتفاق بالنسبة إلى لبنان تكمن في أنه بات هناك اتفاق إقليمي على تحجيم دور القوى التي تدعمها إيران في المنطقة تمهيداً للشروع في حل الأزمات الإقليمية، وأنه من الطبيعي أن يكون الجانب الأميركي مرحباً به، لأنه سيعاود إطلاق مسار التفاوض في الملف النووي الإيراني. وأن الدور الصيني أساسي في هذا الصدد، فالصين تتعاون مع روسيا ولكنها لم تقدّم لها أي دعم أو مساعدة ملموسة في حربها ضد أوكرانيا حتى الآن، ما يؤكد أن بكين ليست ذاهبة إلى صدام مع الولايات المتحدة الاميركية والغرب عموماً.

ويعتقد الديبلوماسي نفسه أن الخلاف الصيني ـ الأميركي تجرى معالجته في منأى عن روسيا، فواشنطن وبكين في حاجة الى بعضهما البعض، خصوصاً في المجال التكنولوجي، ذلك أن التكنولوجيا نصفها في الصين والنصف الآخر في أميركا، ما يقيم تعاوناً وثيقاً بين الاقتصادين الأميركي والصيني، وليس من مصلحة الجانبين انكساره.

احتمال ضرب ايران

في المقابل ثمة من يقول أن السعودية ذهبت إلى تطبيع علاقاتها مع إيران لأنها متخوفة من احتمال إقدام واشنطن وتل أبيب على توجيه ضربة عسكرية لإيران بغية تدمير منشآتها النووية وقوتها العسكرية الاستراتيجية، بذريعة أن طهران باتت على مسافة أيام أو أسابيع من تصنيع القنبلة النووية. ويدل إلى احتمال هذه الضربة المناورات المشتركة الجارية في صحراء "النقب" في الأراضي الفلسطينية المحتلّة وكذلك في صحراء "نيفادا" الأميركية.

ولذلك قد تكون الرياض تريد أن تنأى بنفسها عن ضربة من هذا النوع، وهي أصلا لا تحبّذها لأنها إن حصلت ستكون لها انعكاساتها المدمّرة عليها وعلى معظم دول الخليج العربي، بدليل  أنها رفضت وشقيقاتها الخليجيات المشروع الذي حمله بايدن إليها في الصيف الماضي لإنشاء ما سمي "حلف ناتو عربي"، تُضم إليه اسرائيل في مواجهة إيران. علماً أن جميع الدول الخليجية ومعها الأردن كانت استبقت وصول بايدن إلى الرياض بإعلان رفضها هذا الحلف، حتى ولو كان عربياً صرفاً من دون اسرائيل.

في أي حال، فإن المطلعين يقولون أن ضمان نجاح هذا الاتفاق هو الصين التي رعته، وهي التي تعرف طرفيه وأهدافه ومراميه، لا يعتقدن أحد أن وضعها صدقيتها في هذا المضمارقد جاء من فراغ، وإنما جاء من زاوية استراتيجية ستتكشف فصولها في قابل الأيام من خلال خطوات تنفيذ هذا الاتفاق بأبعاده المحلية والإقليمية والدولية.