طارق ترشيشي

سقط "تفاهم مار مخايل" بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" لكن أي منهما لم يعلن رسمياً هذا السقوط بعد، فبعدما كان الكبار في طرفيه يهدّئون الصغار ويحرّصونهم على عدم اتخاذ أي مواقف تهدد هذا التفاهم مهما صدر عن صغار الطّرف الآخر، انقلبت الآية، صار الصغار يهدّئون الكبار في الطرفين عن التصعيد بعضهما ضد بعض، ما يعني ان التفاهم صار في خبر كان، وإن كان لا يزال هناك خيط رفيع يحفظ ما تبقّى من ودّ علّه يعيد بعض أو كلّ الودّ يوماً ما.

إلّا أنّ السّؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح يدور حول مصير "التيار الوطني الحر" وأين سيكون تموضعه في خريطة المواقع السياسية في البلد، أيكون وحيداً؟ أم يتموضع إلى جانب قوى أخرى؟

فـ"حزب الله"، يقول مطّلعون، باقٍ على تموضعه ضمن محور يمتد من الداخل إلى المنطقة، ولم يبدّل تبديلاً، وليس بخائف من أن يغدو وحيداً في برّية السياسة اللبنانية، فهو قوة سياسية مؤثرة وجاذبة وذات مهابة لدى حلفائها وخصومها على حدّ سواء، فيما "التيار الوطني الحر" لا يمتلك مثل هذه المقدرات والقدرات، فهو خرج باكراً من التحالف الذي كان يطلق على نفسه فريق 14 آذار، ومن الصعب أن يعود إليه أو إلى ما تبقى منه. وقد فشل حتى اللحظة في أن يتفق مع الحزب التقدمي الاشتراكي، وقبله وبعده مع "القوات اللبنانية" التي كان بينه وبينها "تفاهم معراب" الذي سقط منذ سنوات، كذلك لم يتمكن من التفاهم مع كتل نيابية وسياسية أخرى ومع النواب المستقلين. ما جعله يغرّد وحيداً، منتظراً أن يعيد وصل ما انقطع بينه وبين الغرب وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية التي تفرض عقوبات على رئيسه النائب جبران باسيل وفق قانون "ماغنسكي" ولم يفلح في رفعها حتى الآن، رغم الوساطات المتعددة التي لجأ اليها وأبرزها الوساطة القطرية التي تجددت خلال الاجتماع الخماسي الأخير في باريس، ولكن الجانب الأميركي صدّ الطّلب القطري بجواب أكّد فيه أن رفع العقوبات هو من صلاحيات المؤسسات القضائية الأميركية المختصّة والتي لا يحق للإدارة الأميركية التدخّل فيها.

ولذلك، يضيف المطّلعون، لم يكن رفع "التيار الوطني الحر" شعار "لوحدنا" في خلفية مقار اجتماعاته ولقاءاته إلا أصدق تعبير عن شعوره بـ"الوحدة" وعجزه عن نسج أي تحالفات أو تفاهمات سياسية جديدة مع أي طرف آخر بديلاً من التحالف مع حزب الله، وعليه هو متجه إلى تكريس نفسه فريق معارضة خلال العهد الرئاسي الجديد آملاً في اجتذاب أفرقاء آخرين إلى التحالف معه، إن نجح في ذلك، لأن خصوماته الكثيرة التي تراكمت منذ خروجه من فريق 14 آذارمن عهد الرئيس اميل لحود إلى عهد الرئيس ميشال سليمان وبلغت ذروتها خلال عهد الرئيس ميشال عون المنصرم، لا يمكن أن تذلّل بسهولة خصوصاً أن التذليل يفترض توافر إرادة مشتركة بينه وبين خصومه، وحتى الآن لم يبد أي خصم لـ"التيار" أي ارادة من هذا النوع.

ويقول أحد المطلعين على تحرك التيار، استناداً إلى ما ينقل عمّا يقال في بعض اجتماعاته ومجالس مسؤوليه، أن استعانة باسيل بالبطريرك الماروني بشارة الراعي عبر اقناع الأخير بالدّعوة إلى اجتماع مسيحي في بكركي يمكن أن يفتح الأبواب أمام تلاق بين "التيار" و "القوات" كأكبر قوتين سياسيتين مسيحيتين، لم تنجح لأن "القوات" لم تؤيد هذا اللقاء بعد لأنّه سيكون في رأيها بمثابة تعويم مسيحي لباسيل وتياره وهو ما لا تريده، وإنما تفضّل أن تنتظر على "ضفة النهر" مراهنة على أن التيار سيتفسخ بين "عونيين" و"باسيليين" أي بين تيار يوالي الرئيس ميشال عون ويتمسك بأهدابه وأدبياته السياسية، وتيار يوالي باسيل ويتمسك أيضا بشعاراته وطروحاته "التجديدية" في التيار مساراً ومصيراً. ولا تخفي "القوات" أنها تتوقع انفراط عقد التيار كلّما تقدّم عون في السن. علماً أن الأعمار بيد الله وأن ما من حي يمكنه أن ينتظر حياً آخر...

ولكن في المقابل فإن باسيل ينتظر هو الآخر على ضفة النهر الأخرى انفراط عقد "القوات" تبعاً للوضع الصحّي لرئيسها الدكتور سمير جعجع، مع أنه ليست هناك من دلائل دامغة إلى ان في البنية التنظيمية لـ"القوات" ما يشير إلى انقسام كبير في صفوفها سواء على مستوى قيادتها أو قاعدتها.

وثمة من يقول أن كلا من "التيار" و "القوات" يعارضان انتخاب رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، وكذلك قائد الجيش العماد جوزف عون، وإن كان موقف "القوات" يبدو مرناً بعض الشيء إزاء عون إلّا أنه لا يمكن البناء عليه تبعاً لموروثات "حرب الالغاء" الشهيرة بين الجيش و"القوات". ولكن مع ذلك احتمال أن يغيّر أحدهما موقفه إيجاباً من فرنجية أو عون هو احتمال وارد. وسيكون لكلّ منهما في هذه الحال حساباته حول مدى استفادته من "عهد" فرنجية أو "عهد" عون في سياق النزاع على النفوذ السياسي ضمن الساحة المسيحية خصوصاً واللبنانية عموماً. لكن هذا الأمر يبقى مرهوناً بطبيعة التسوية الخارجية التي ستحدد هوية رئيس الجمهورية العتيد، وهي تدلّ إلى الآن أنّها تصبّ في مصلحة فرنجية لحصول اتفاق مبدئي أميركي ـ سعودي ـ فرنسي عليه في مقابل أن يكون رئيس الحكومة القاضي نواف سلام والذي يسعى البعض لاستبداله بالرئيس تمام سلام الذي يلتزم الصمت المطبق هذه الأيام إذ لا يصدر عنه أي موقف ولا يسجل له أي لقاءات داخلية أو زيارات إلى الخارج.

على أن المطّلعين على موقف التيار يقولون أن باسيل قد يبادر إلى إعلان ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية رغم إدراكه أنه لن يتمكن من الفوز، ولكن ترشيحه هذا إن حصل فسيكون تعبيراً منه عن الرغبة في النزول من أعلى الشجرة والدخول في تسوية مع الآخرين عبر جعل كتلته النيابية "التيار القوي" بيضة القبان المرجحة لحظوظ هذا المرشح الرئاسي أو ذاك، وهو أمر يسابقه إليه "التيار الديموقراطي" برئاسة تيمور جنبلاط الذي يتوزع الأدوار بينه وبين والده رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط في التفاوض مع من يعنيهم الأمر. ولكن في المحصلة سيكون باسيل أمام تحدّي تحقيق ما يرغب من مكاسب في الاستحقاق الرئاسي، لكون هذا الأمر يرتبط بمصير حجمه السياسي الراهن والمستقبلي في الحياة السياسية الوطنية عموماً وعلى الساحة المسيحية خصوصا.