خالد أبو شقرا

يقف المودعون اللبنانيون والأجانب على "فالق" التناقضات بين المصرف المركزي والبنوك التجارية.  فزلزال الانهيار الاقتصادي "رَدَم" نحو 174 مليار دولار من الودائع، 74.5 في المئة منها بالدولار الأميركي، ورفع "جبالاً" من التكهنات عن مصير الحقوق. ومما زاد من الالتباس وجود وجهتي نظر، الأولى: يقودها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وتقول إن مصرف لبنان لا يملك أموال المودعين، وبأنه أعاد للمصارف توظيفاتها لديه. الثانية تفيد بان المصارف أودعت المركزي ما يفوق 80 مليار دولار، وكل ما تبقى منها هو 10 مليارات تمثل التوظيفات الإلزامية.

قبل أيام كرر حاكم مصرف لبنان في حديث لبرنامج "ثم ماذا حدث" على قناة الإخبارية المصرية أن ودائع البنوك تبددت لسببين:

الأوّل: خسارتها محفظة مقدرة بحوالي 15 مليار دولار من السندات بالعملة الأجنبية "يوروبوندز"، بعد إعلان الدولة تخلّفها عن سداد الديون في شباط 2020.

الثاني: خسارتها نحو 50 مليار دولار من محفظة تسليفها للقطاع الخاص. فمنذ بدء الإنهيار في العام 2019 سدّد القطاع الخاص ديوناً بقيمة 30 مليار دولار على سعر صرف 1500 ليرة أو بتشيك مصرفي على سعر بدأ بـ 2600 ليرة، ومن ثم رُفع إلى 3900 ليرة، ومن بعدها صار 8000 ليرة. وهي أرقام تبقى أقل بكثير من سعر الصرف في السوق الموازية. وبحسب تصريحات الحاكم فإن "معظم الأموال التي أقرضها مصرف لبنان للدولة كانت بالليرة اللبنانية. والسؤال الذي يطرح نفسه: أين هي أموال المودعين؟

الودائع ظاهرة في الميزانية

[caption id="attachment_5015" align="alignnone" width="1600"] مصرف لبنان المركزي[/caption]

ببساطة، وقبل الغوص في التفاصيل التقنية فإن "الميزانية نصف الشهرية التي يصدرها بانتظام المصرف المركزي تُظهر وجود ودائع للبنوك بقيمة تفوق 80 مليار دولار، أكثر من 95 في المئة منها بالعملة الصعبة. فالودائع بالعملة المحلية تضاءلت جداً. ولاسيما مع اعتماد سعر الصرف الجديد على أساس 15 ألف ليرة للدولار"، بحسب مصدر مصرفي رفيع. "ومن المرجّح أن يكون الحاكم رياض سلامة يعتبر أنه سدّد عن المصارف أموالاً نقدية بالدولار ابتداءً من العام 2016 بدلاً عن الاعتمادات التجارية التي كانت تفتح بالليرة اللبنانية للاستيراد الخارجي، وهي مبالغ تفوق ما كان يوضع في الحسابات بالدولار. ولكن هذا لا يعني بأي شكل من الاشكال أن الودائع تبخّرت. بل بالعكس، الودائع موجودة وقيمتها بالدولار ارتفعت".

الدولة بددت الودائع

 "الودائع استعملها مصرف لبنان لإقراض الدولة، والدفاع عن سعر الصرف المثبت، وتمويل الاستيراد الخارجي، بشكل أساسي"، بحسب رئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمود. "وما التحجج بعكس ذلك إلا للهروب من تهمة "هرم بونزي" Ponzi scheme الذي خلقته السلطة على مدار السنوات الماضية". وفي التفاصيل فإن حاكم المصرف المركزي يقارن بين حركة الأموال ورصيد الأموال. بمعنى آخر، أن حركة الأموال المسحوبة من المركزي، أي تلك التي حوّلها من الليرة إلى الدولار على السعر المحدد من قبله، توازي قيمة رصيد الأموال الموضوعة لديه، أو حتى تتجاوزها. وبرأي حمود فإن "نمط العمل هذا يعود فعلياً إلى العام 1993 تاريخ إنشاء المقاصة بالدولار، وإقرار الإقراض بالعملة الصعبة، فأصبح هناك خلق لموجودات بالدولار". ولكنها بقيت برأيه "داخلية وليست خارجية. الأمر الذي أدّى إلى خلق أموال بالداخل نتيجة الإقراض سواء كان للقطاع العام أو الخاص".

الهندسات المالية

من الأسباب التي تدفع أيضاً حاكم المركزي للقول بأنه أعاد أموال المصارف هو طريقة احتساب الأرباح مما يعرف بـ "الهندسات المالية". فالمصارف كانت تضع عنده ودائع بالدولار مقابل قروض بالليرة اللبنانية، تعود وتضعها كسندات خزينة مقابل فائدة تبدأ بـ 10.5 في المئة، وكانت الأرباح المتأتية عنها تحوّل إلى دولار على أساس 1500 ليرة وتبقى في المركزي. وبهذا الشكل لا يمكن اعتبار الأرباح التي جرى خلقها بالداخل كمدفوعات مسبقة، ذلك أنه لم يكن بالإمكان قبضها بالخارج وهناك تعميم واضح لجهة استعمالها خصّيصا لزيادة الأموال الخاصّة بالليرة اللبنانية. وهي لم توزّع على المساهمين بشكل أرباح.

الكل مسؤول

الادّعاء بأن الودائع لم تعد موجودة قد يكون "تمهيداً لشطبها من ميزانية المركزي"، من وجهة نظر حمود. ذلك مع العلم أن الكلّ في سلسلة العمل المصرفي مسؤول ولو بدرجات متفاوتة، ابتداء من المودعين، مروراً بالمصارف ومصرف لبنان، ووصولاً إلى الدولة. وعلى الأخيرة تحمّل المسؤولية الأكبر عن السياسات النقدية والمالية التي أوجدت لحمايتها". فإذا على الدولة، ذلك "الكيان المدين بحجم هائل، والغبي"، كما يصفها حمود، "موجب تغطية التزاماتها بالعملة الأجنبية في مصرف لبنان، فإن على المصارف إعادة رسملة نفسها". وبرأيه فإن "الدين الجديد بالدولار على الدولة بقيمة 16.5 مليار دولار الذي ظهر في ميزانية مصرف لبنان عن النصف الأول من شباط الحالي، لطالما كان موجوداً. وقد جرى الاتفاق منذ كان الرئيس فؤاد السنيورة وزيراً للمالية، في وضع هذا الدين الناتج عن تمويل احتياجات الدولة بالنقد الصعب في حساب خارج الميزانية. وقد برزه المصرف المركزي الآن، مع تخفيض سعر صرف الليرة إلى 15 ألف ليرة. والحكومات المتعاقبة كانت على علم به. خصوصاً أن لديها فريقان يمثلانها في المركزي وهما مفوض الحكومة، وكل من مدير عام وزارة المالية والاقتصاد".

هل تُعاد الودائع؟

مما لا شك فيه أنّ تأخّر الحلول زاد الفجوة النقدية (مطلوبات المركزي – موجوداته من العملات الصعبة) في مصرف لبنان من حدود 20 مليار دولار في نهاية العام 2019 إلى أكثر 72 مليار دولار بحسب التقديرات الحكومية. ومع هذا فإن "الحل ممكناً، وإعادة الودائع ليست مستحيلة. وهي تتطلب بحسب "اقتراح مختصر مفيد حول تحمّل الدولة اللبنانية مسؤولية ردم الفجوة المالية لمصرف لبنان"، المقدّمة من رئيس مجلس إدارة، مدير عام بنك لبنان والمهجر سعد الأزهري "استعمال جزء بسيط، لا يتجاوز 20 في المئة من عوائد النفط والغاز المستقبلية. حيث تمثل هذه الطريقة وسيلة، وأداة منصفة وعادلة لاسترجاع المودعين لأموالهم وضمان فعالية القطاع المصرفي في المستقبل. خصوصاً أنها تحرّره من مطلوبات هائلة". وينص المقترح على رصد 20 في المئة من إيرادات النفط والغاز، المقدرة بحدود 345 مليار دولار في شركة مستقلة تدعى: "SPV" أو: SPECIAL PURPOSE VEHICLE. يتم بعدها توزيع أوراق مالية، كأسهم وحقوق على المودعين تتناسب مع حجم الوديعة لكل مودع. ويمكن إدراجها في سوق البورصة لكي توفر السيولة الآنية للمودعين الراغبين في بيعها".

 وبحسب المعلومات فإن "صندوق النقد الدولي لا يعارض مثل هذه الطروحات، طالما الإيرادات ما زالت مستقبلية ولن تدخل في الموازنة في الخمس سنوات القادمة. وهي لا تؤثّر على الرفاه الاجتماعي، وعلى ضمان سداد الديون. وذلك خلافاً لتخصيص أو بيع أصول الدولة ومرافقها العمومية". مع التشديد على ضرورة تحمّل المصارف الخسائر التي نجمت عن توظيفاتها في القروض للقطاع الخاص، وفي السندات السيادية للدولة وعن تدنّي سعر الصرف. حيث أن معظم أموالها الخاصة هي في الليرة اللبنانية. والتي قد تؤدّي إلى فقدان معظم أو كل رأسمالها. الأمر الذي يستوجب على مساهميها إعادة بناء رأسمالها أو تصفية أعمالها ومغادرة السوق المصرفي.

ردم الفجوة النقدية ضروري، وقيمة التعويضات قد تنخفض إذا ما أخذنا في عين الاعتبار الودائع غير المشروعة والمتأتية من أعمال الفساد والسرقة وتقليص الفوائد الباهظة التي دفعت طوال السنوات الماضية.