فكّر المزارعون "آدم" عاصفة شباطية، تبين أن "آدم"كان كناية عن استمرار خيباتهم من التغيرات المناخية. صحيح أن شباط اللباط "ما على كلامه ربّاط"، كما يقال في الأمثال الشعبية، إلا أن ندرة المتساقطات أتت مخيبة للآمال، خصوصاً إذا ما قورنت بالتوقعات.

بالأرقام تراجع معدل الأمطار في منطقة "تل عمارة" في محافظة البقاع لغاية 25 شباط 2025 بشكل حاد، إذ لم يتجاوز 200 مليمتر، مقارنة مع 600 مليمتر، للفترة نفسها من العام الماضي. في حين أن المتوسط السنوي يبلغ 470 مليمتر. ما يعني أن كمية المتساقطات لهذا العام، تقل بنسبة 42 في المئة عن المعدل السنوي العام.

خسائر المزارعين بالجملة

الانخفاض الكبير في المتساقطات في أشهر "فحول الشتاء"، ليس تفصيلاً بالنسبة للقطاع الزراعي، يمكن تجاوزه. المزارعون وإن كانوا يُعيدون، تهكماً، ندرة الأمطار إلى التآمر بين الطبيعة والمسؤولين على قطع أرزاقهم، فانهم يعون تماماً حجم المشكلة، أقله لهذا العام. ويمكن وصف ما جرى وسيجري بـ "القصاص" للمزارعين. بحسب رئيس جمعية مزارعي وفلاحي البقاع ابراهيم الترشيشي. إذ إن ندرة الأمطار المترافقة مع صقيع وتدني درجات الحرارة دون الخمسة تحت الصفر ليلاً، ستؤدي من جهة إلى عدم إنبات الكثير من المحاصيل الشتوية، ومن الجهة الثانية إلى انحصار الينابيع و تدني منسوب المياه الجوفية. وبحسب الترشيشي "لم تُجمع الآبار الإرتوازية المخصصة للري، المياه هذا العام، وانخفض مستوى إخراج المياه من الآبار الجديدة إلى مئات الامتار. الأمر الذي يرفع الكلفة على المزارعين بشكل كبير، ما يؤدي إلى تقلص المساحات المزروعة، وتراجع كمية الإنتاج، وبالتالي إلى زيادة كبيرة في الأسعار. وبالنظر إلى تدنى القدرة الشرائية عند المواطنين اللبنانيين، وإغلاق أبواب التصدير للخارج، واستمرار المنافسة المشروعة وغير المشروعة من السلع المستوردة، والمهربة من تركيا وسوريا، فإن تسويق المنتجات الوطنية سيكون صعباً، وسيُمنى المزارعون بخسائر مادية كبيرة.

التعويضات غائبة

هذه "الدورة" الزراعية التي تتكرر سنوياً ولأسباب مختلفة، "مستمرة منذ عقود"، يقول عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي عمران فخري. "فمنذ 30 عاماً ونحن نسمع بمشاريع مواجهة التغير المناخي، ونقرأ الخطط، ونستقبل الوفود الرسمية والدولية للكشف عن الأضرار، ولا نرى أي نتيجة فعلية على أرض الواقع". الخطط مرمية في الأدراج، وعمل لجان الكشف والتعويض يقتصر على أخذ الصور التذكارية وإطلاق الوعود، فيما التحفيز على مواجهة التبدلات الطبيعية وتغيير طبيعة المزروعات، وأماكن الزراعة لتصبح أكثر ملاءمة مع الوضع الراهن، تفتقر إلى التمويل اللازم. وعلى هذه الحال تستمر المعاناة سنة بعد أخرى، وتتقلص المساحات المزروعة ويهجر المزيد من المزارعين الحيازات الزراعية وينتقلون إلى أعمال جديدة ولا من أحد يسأل أو يهتم. ومن دون العودة كثيرا إلى الوراء فان "المزارعين لم يقبضوا التعويضات عن كشف الأضرار التي خلفتها العاصفة الكبير التي ضربت لبنان في العام 2020، من قبل الهيئة العليا للإغاثة لغاية اليوم"، بحسب فخري.

الحلول موجودة ولكن تنقصها الإرادة

يمكن تقسيم المشكلة التي يتعرض لها لبنان جراء التغير المناخي إلى شقين أساسيين، بحسب رئيس جمعية المزارعين اللبنانية أنطوان حويك:

الأول، ارتفاع الحرارة. حيث يسجل لبنان زيادة بمقدار 2.5 درجة عن المتوسط العام مقارنة بخمسينيات القرن المنصرم.

الثانية، تراجع المتساقطات في بعض الأعوام، وزيادة الاستهلاك الكبير للمياه سواء كان للاستعمال أو الري. الأمر الذي جفف العديد من مصادر المياه السطحية والجوفية. وأصبح الوصول إلى المياه يتطلب الحفر إلى أعماق كبيرة. فمن بعد ما كان يمكن استخراج المياه على عمق بضعة أمتار في البقاع قبل نصف قرن، أصبحت هذه العملية اليوم تتطلب الحفر إلى مستويات تصل أحيانا إلى 200 متر.

وبرأي الحويك فإن المزارع اللبناني، لا يستطيع مواجهة هذه التغيرات منفرداً، مع أن الحلول يمكن أن تكون أسهل بكثير وأقل تكلفة مما يطرح من مشاريع وعناوين. ويكمن الحل برأيه بـ"وقف هدر المياه السطحية من خلال صبها مباشرة في البحر، وحفر آبار المياه النازلة، (عكس الصاعدة)، على مجاري الأنهار لإعادة تغذية المياه الجوفية". وبهذه الطريقة يمكن استغلال المياه المخزنة في سنوات الجفاف والتوفير على المزارعين الأكلاف الباهظة. ويعتبر هذا النوع من المشاريع أوفر وأجدى بما لا يقاس من السدود التي لم تثبت نجاحها، وهي معرضة مثلها مثل الكثير من مصادر المياه السطحية إلى الجفاف نتيجة شح المتساقطات، والتبخر، وغيرها العديد من العوامل. بيد أن عدم وجود منفعة مادية للمسؤولين في مثل هذه المشاريع البسيطة يجعل تنفيذها مستحيلاً".

"إيدال" والدور المفقود

بالاضافة إلى التعويض المباشر على المزارعين نتيجة الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية، فقد أنشأ لبنان في سنوات ما قبل الانهيار "المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمار – إيدال"، التي لعبت دوراً مهماً في دعم التصدير الزراعي. حيث كانت تدفع ما يقارب 120 ألف ليرة على كل طن يجري تصديره من الحمضيات، والموز، والتفاح، والبطاطا والقمح.. وغيرها العديد من الأصناف التي يمتاز بها لبنان. وقد ساعد مثل هذا الدعم المزارعين في فترة من الفترات على تعويض ارتفاع كلفة الإنتاج، والسماح للمنتجات المحلية بالمنافسة في الأسواق العالمية. إلا أنه على الرغم من النكبات التي مني بها المزارعون، فان "قيمة الدعم لم تعد تساوي اليوم 2 دولار كونها مازالت محتسبة على أساس سعر صرف 1500 ليرة"، بحسب عمران فخري. "وذلك بعدما كانت في السابق تساوي حوالي 60 دولاراً". وبرأي فخري فان العودة إلى "دعم التصدير الزراعي يساعد المزارعين على الصمود في وجه الأزمات والتعويض قليلاً عن الخسائر". ومن المهم أيضا برأيه، تأمين استثمارات في القطاع الزراعي تساعد المزارع على تحمل الفترة الانتقالية نحو مزروعات جديدة أكثر ملاءمة للتغيرات المناخية الحاصلة.

إعادة فتح ما أقفل من أسواق

من العوامل المساعدة أيضاً على دعم المزارعين، هو فتح الأسواق الخارجية لتصريف المنتجات، ولاسيما السوق السعودية المقفلة منذ 27 نيسان 2022. و"تمثل السوق السعودية سوقاً مهماً جداً لتصدير المنتجات اللبنانية من ناحية الكمية والمالية، وتشكل ممراً إلزاميا للنقل البري إلى بقية الدول العربية"، ويأمل الترشيشي من فخامة رئيس الجمهورية المتوقع أن يزور السعودية قريباً، التطرق إلى هذه المسألة وطمأنة الجانب السعودي إلى زوال مبررات إقفال طريق التصدير في وجه البضائع اللبنانية. الأمر الذي من شأنه دعم القطاع الزراعي وزيادة عائداته، لفك عزلته".

حال لبنان مائيا كحاله مالياً. فكما هو منهوب وليس مفلساً، لا يعاني لبنان من نقص المياه إنما من "سوء الإدارة"، يشدد حويك. ويمكن حل هذه المشكلة بسهولة متى توفرت الإرادة السياسية لذلك.