تُمثل وزارة الصحة أكبر جهة ضامنة في لبنان. تغطيتها الاستشفائية والدوائية تطال 51 في المئة من السكان، مقابل توفير 6 جهات ضامنة رسمية التغطية لنسبة 49 في المئة المتبقية، بحسب دراسة لمركز ترشيد السياسات (K2P) في الجامعة الاميركية في بيروت، أعدّت في العام 2023. الإعتماد المفرط على الوزارة لتغطية أكلاف الاستشفاء استمر بعد الانهيار، لكنة شهد تراجعاً كبيراً بالقمية، بالتوازي مع تراجع موازنة الوزارة المخصصة للإستشفاء من 400 مليون دولار في العام 2018، إلى 200 مليوناً في العام 2024.

العبء الكبير الملقى على عاتق وزارة الصحة، يقابله مشكلة آنية ومستقبلية بما خص توفير التمويل الكافي لتأمين الإستشفاء والدواء للجزء الاكبر من اللبنانيين. فموازنتها ستبقى محدودة مهما زادت، نظراً لتراجع الموازنة العامة للدولة من حدود 17 مليار دولار قبل الانهيار إلى 4.8 مليار دولار هذا العام. أما مستقبلاً فان "مشروع قانون التغطية الصحية الشاملة" المربوط أساساً بوزارة الصحة، والموجود في أدراج مجلس النواب منذ سنوات، لا يتضمن "آليات توليد الواردات واستدامتها". بحسب دراسة (K2P) "تحليل مفصل لمشروع قانون التغطية الصحية الشاملة في لبنان: الثغرات والتوصيات"، "ولا يحدد فيما إذا كانت هذه الواردات كافية ومستدامة بمرور الوقت". وفي حال قدر لهذا القانون الذي تدرجه الحكومات المتعاقبة في بياناتها الوزارية منذ العام 2010 من دون ملل، ويكرره النواب في برامجهم الانتخابية من دون كلل، فسيكون قاصراً عن التمويل ايضاً. ذلك أن وارداته تتألف من بدل البطاقة الصحية، والمبالغ المحولة من الموازنة العامة، والتبرعات والهبات وموارد اخرى، وضريبة تعاضدية. ولم يشير القانون إلى الأولوية بحسب نسبة المساهمة الأساسية. فهل سيكون الاعتماد الأساسي على مساهمات تلحظ في الموازمات العامة أمّ على تبرعات ومنح؟ وهل ستكون هذه الاخيرة مستدامة؟ وما هو مصير الفئات التي لا يمكنها شراء البطاقة الصحية؟ ومن يؤمّن التمويل؟

مصادر تمويل مستدامة

أسئلة كثيرة تستوجب التفكير بمصادر تمويل مستدامة "من خارج الصندوق". واحدة من هذه المصادر قد يكون اقتطاع نسبة ولو بسيطة من التأمين الإلزامي على الآليات. فبحسب قانون "الضمان الإلزامي للمسؤولية المدنية عن الأضرار الجسدية التي تسببها المركبة البرية للغير"، الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 105 في العام 1977، "يلزم كل مالك مركبة في لبنان أن يعقد ضماناً (عقد تأمين) لدى هيئة ضمان (شركة تأمين) مرخص لها بمزاولة ضمان أخطار المركبات، يغطي المسؤولية المدنية التي يمكن أن تترتب عن الأضرار الجسدية التي تسببها مركبته للغير. ارتفعت قيمة عقد التأمين الإلزامي من 65 ألف ليرة (43.3) قبل الانهيار الاقتصادي، إلى 150 ألف ليرة في العام 2021 ومن ثم 400 و800 ألف ليرة على التوالي في العام 2022، قبل أن تتم دولرتها كلياً في العام 2023، وتحدد بـ 35 دولاراً للمركبات السياحية. وترتفع قيمة التأمين الإلزمي على سيارات التاكسي إلى 70 دولار، وبين 100 و300 دولار على الباصات بحسب سعتها، وتصل قيمة العقد إلى 750 دولار على صهاريج البترول التي تزيد سعتها عن 10 الاف ليتر.

مورداً ماليا كبيراً

تشكل هذه العقود مورداً مالياً كبيراً لشركات التأمين، حيث تبلغ حصتها الصافية منها 30 دولاراً، وذلك بعد اقتطاع 13.5 في المئة منها لثلاث جهات هي، البلديات بنسبة 6 في المئة، طوابع مالية بنسبة 5 في المئة، و2.5 في المئة لوزارة الاقتصاد. ومن المقدر أن تبلغ قيمة مجمل عقود التأمين الإلزامي 54 مليون دولار أقله، انطلاقاً من تقدير الدولية للمعلومات وجود 1.8 مليون سيارة وآلية في العام 2018. وإذا افترضنا أن عدد السيارات المسجلة ارتفع خلال الاعوام الماضية إلى 2 مليون سيارة أقله، فان اقتطاع 2.5 دولارا فقط لصالح صندوق خاص ينشأ للغاية في وزارة الصحة، يؤمن مبلغاً مالياً مستداماً بقيمة 5 ملايين دولار، ومن الممكن أن يرتفع هذا الرقم إلى 10 ملايين في حال اقتطاع 5 دولارات فقط.

نسبة كبيرة من حوادث السير تسجل كحوادث عمل

ينطلق هذا الاقتراح أن نسبة كبيرة من الحوادث التي تستوجب دخول مستشفى كانت تغطيها الجهات الضامنة الرسمية من وزارة صحة وضمان على انها حوادث عمل وليست سير، تفاديا للتحقيقات الرسمية وإدخال اجهزة الامن. هذا عدا طبعاً مع الأخذ بعين الاعتبار محاولة العديد من شركات التأمين الخاصة التملص من تغطية حوادث السير بشكل كامل بالدولار، وتحميل المؤمنين فوارق الاستشفاء خلال الاعوام الثلاثة من الانهيار. إلا أن ما يصح على سنوات ما قبل الانهيار، وفي العامين الاوليين منه عندما كانت البوالص مسعرة بالليرة اللبنانية بأقل بكثير من سعر السق الفعلي، "لم يعد جائزا حاليا"، برأي المستشار في التأمين سليمان حبيقة. فمع تراجع التقديمات من الجهات الضامنة الرسمية ولاسيما وزارة الصحة والضمان الاجتماعي، وتحميل المريض فروقات كبيرة من جيبه من جهة، ودولرة التأمين الإلزامي والتزام الشركات التسديد لغاية السقف الاعلى والمحدد بـ 400 ألأف دولار بالنسبة للسيارات السياحية من الجهة الثانية، أصبح الجميع يفضّل إبراز بوليصة التأمين عند الاضطرار لدخول المستشفى نتيجة التعرض لحادث سير". هذا فضلا عن كون "الزيادة الكبيرة في تعرفة المستشفيات والتي زادت مرتين العام وحده أصبحت تشكل عبئاً على شركات التأمين مقارنة باسعار البوالص التي ما زالت قيمتها بالدولار أقل بحوالي 20 في المئة مما كانت علية قبل الانهيار"، يضيف حبيقة. وعليه فان الموافقة على اقتطاع نسبة مئوية من بوالص التأمين الإلزامي لصالح وزارة الصحة قد يكون أمراً مستبعداً، من شركات التأمين.

وبحسب مصادر من وزارة الاقتصاد فانه لطالما ان هناك مطالبات بنقل التأمين الإلزامي من وزارة الاقتصاد إلى وزارة الصحة، من دون معرفة السبب او المنطق الذي يكمن وراء ذلك. وفي جميع الحالات فان هناك مشروع لدنج بوليصتي التأمين الإلزامي وضد الغير في بوليصة واحدة مع رفع سقف التغطية ومعالجة كل المشاكل التي تتصل بهذا الملف.

التفكير من خارج الصندوق يتطلب دراسة اكتوارية دقيقة لواقع التأمين بالتنسيق مع المؤسسة الوطنية للتأمين الإلزامي لمعرفة حجم ايردات القطاع ونفقاتها وان كان يتحمل زيادرة بنسبة معينة تذهب لصالح وزارة الصحة لتأمين الاستشفاء.