في طقوس الإنكار، أفضل وسيلة للتملص من الإنكسار هي ادّعاء الانتصار. فللهرب الى الأمام يتنقّل المرء في استجرار الانتصار من الوهم الى الهلوسة. هذا النهج ثابتة تاريخية ونتائجه حتمية، إذ عند إنكشاف الحقيقة تصاب الشعوب بالتخبّط والإحباط والإنهيار بعد أن تكون ضحّت بخيرة ناسها وخيراتها.

هذا هو واقع حال "الحزب" الذي يمطر اللبنانيين بسرديّات الانتصار. فبعد إعلان أمينه العام الشيخ نعيم قاسم "الإنتصار الكبير والتوفيق الإلهي" في أول إطلالة له عقب التوصل الى وقف إطلاق النار في 27/11/2024، ها هو قاسم نفسه يعلن الإنتصار مجدداً في 26/1/2025 تاريخ إنتهاء مهلة الـ60 يوماً التي نصّ عليها الاتفاق مكرّراً في كلمته عشرات المرات "انتصرنا، وغصباً عنكم" إنتصرنا".

في إتفاق وقف إطلاق النار الذي فاوض عليه "الحزب" من خلال الرئيس نبيه بري ووافق عليه وزراؤه في إجتماع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ارتضى بمهلة الـ60 يوماً التي فرضتها إسرائيل للانسحاب وبترؤس جنرال أميركي لجنة مراقبة التطبيق وبفك الإرتباط عن غزة والتخلي عن "وحدة الساحات" وبعدم تناول ملف أسرى "الحزب" لدى إسرائيل. وغضّ الطرف عن الإتفاق الجانبي بين واشنطن وتل أبيب الذي يؤمن لها ضمانات وحرية الحركة في لبنان إن شعرت بأي خطر يشكّله "الحزب" عليها. رغم كل ذلك "إنتصرنا"...

عاد قاسم بالأمس ليقرأ في كتاب "الصبر الإستراتيجي" لتبرير سكوته طيلة مدة الـ60 يوماً عن تفلّت إسرائيل الإجرامي الوقح. غير أن المفاجأة كانت أن هذا الصبر نفذ، أقلّه كلامياً. فبعدما أعلن الرئيس ميقاتي موافقة لبنان على استمرار العمل بوقف إطلاق النار حتى الثامن عشر من الشهر المقبل، وتشاورَ مع رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب في مستجدات الجنوب، جزم قاسم: "لا نقبل بأي مبرّر لتمديد لحظة واحدة أو يوم واحد."

لم يكن أحد ينتظر الأحد 26 كانون الثاني ليتأكد من تمسّك أهل الجنوب بأرضهم وإستعدادهم للإستشهاد في سبيلها

بعدما أعلن "الحزب" في الفترة الأخيرة أنه خلف الدولة ها هو يعود الى نهج "فرض الدويلة خياراتها على الدولة". وقد ظهرت العودة الى هذا النهج واضحة أيضاً باستحضار ورقة "غضب الأهالي" التي دأب على استخدامها سابقاً بوجه قوات "اليونيفيل" لتوجيه الرسائل. وفيما دعت قيادة الجيش الأهالي عشية إنتهاء مهلة الـ60 يوماً "إلى التريث في التوجه نحو المناطق الحدودية الجنوبية، نظراً لوجود الألغام والأجسام المشبوهة من مخلفات العدو الإسرائيلي"، مشددة على "أهمية تحلّي المواطنين بالمسؤولية والالتزام بتوجيهات قيادة الجيش، وإرشادات الوحدات العسكرية المنتشرة، حفاظاً على سلامتهم"، كانت قناة "المنار" الناطقة بإسم "الحزب" تلجأ في مقدمتها ذلك المساء الى ما يشبه "التكليف الشرعي" المخالف لتوجيهات الجيش. ومما جاء فيها: "عائدون غداً، رافعينَ الرؤوسَ والقبضات (…) سيتجاوزون الالغامَ والاجسامَ المشبوهةَ التي خلّفها العدوانُ الصهيونيُ الأميركي، ليُحبطوا كلَّ مشاريعِه ومخططاتِه المشبوهة. سيَكتبونَ باللحمِ الحيِّ بدايةَ فجرِ تحريرٍ جديدٍ (…)".

لم يكن أحد ينتظر الأحد 26 كانون الثاني ليتأكد من تمسّك أهل الجنوب بأرضهم وإستعدادهم للإستشهاد في سبيلها، كما لم يكن أحد ينتظر خوض "الحزب" "مغامرة الإسناد" في 8 أكتوبر ليتأكد من حجم همجية وإجرام إسرائيل. لذا، فإنّ سقوط 24 لبنانياً وجرح 134 آخرين هو هدر لدماء طاهرة. فادعاء "الحزب" أن حراك الاهالي أرغم إسرائيل على الإنسحاب غير صحيح لأنه لو صحّ ذلك لكانت أضحت اليوم خارج الحدود ولكانت أفرجت فوراً عن اللبنانيين المعتقلين لديها. حديث "الحزب" عن عفوية ما حصل تضليل فاضح. فهو تسلّل بأجندته وأهدافه الى عنفوان الأهالي وتمسّكهم بأرضهم وخلق مناخاً ضاغطاً مستخدماً قواعده بشكل مفضوح أظهرته الصور المنقولة من تنظيم الانتقال إلى الجنوب وتحديد نطاق تجمع للحافلات الى استخدامه "التكليف الشرعي" بشهادة إحدى كوادره النسائية التي أصيبت بالنيران الإسرائيلية. رفض "الحزب" تمديد وقف إطلاق النار حتى 18/2/2025، فهل سيترجم موقفه الكلامي في الميدان؟! أم سيكتفي بالتلطي خلف حراك الأهالي فترتفع الفاتورة الدموية بشكل يومي وصولاً الى ذلك التاريخ من دون النجاح بإسقاطه؟!

العودة الى نهج "فرض الدويلة خياراتها على الدولة"، ظهرت بمواقف أحد قياديّي "الحزب" الذين حاول استنهاض معادلة ثلاثية "جيش – شعب – مقاومة" والسعي لفرضها مجدداً في أي بيان وزاري. إلا انه يدرك في قراراة نفسه أن ثمة استحالة لذلك سواء بسبب رفض الأفرقاء اللبنانيين الواسع لها أو بسبب تشكيلها عائقاً أمام مسعى أي حكومة لإعادة الإعمار جراء رفض الدول المانحة لها .

العودة الى نهج "فرض الدويلة خياراتها على الدولة" ظهرت أيضاً بمسيرات الدراجات النارية لبيئة "الحزب" التي انطلقت رافعة شعارات طائفية كـ "شيعة، شيعة، شيعة" وممارسةً تصرفات إستفزازية كإطلاق الرصاص والدخول الى مناطق آمنة غير موالية للحزب من عين الرمانة وفرن الشباك الى الجميزة والاشرفية ونهر الموت ومغدوشة وساقية الجنزير، حيث تم التصدي لهم ومصادرة عدد من الدراجات. تداعيات هذه المشهدية المعيبة والمقيتة باستفزازها للمناطق والاحزاب والطوائف الخارجة عن بيئة "الحزب" هي سلبية أولاً عليه.

رسائل عدة قد تفهم من الحراك جنوباً، وكأن "الحزب" يقول: "مهما فرضتم من قرارات دولية وتحدثتم عن فرض إنسحابي من جنوب الليطاني فأنا ممسك بالأرض". أما حراك الدراجات فكأنه بدل عن "القمصان السود" عشية تشكيل الحكومة وتأكيد أن "الحزب" ما زال قادرا على لعب "ورقة الأرض". لكن حكمة رئيس الجمهورية وقيادة الجيش تحاول إفراغ هذه الرسائل من مضمونها أكان في الجنوب حيث استوعبت إندفاعة الأهالي وغضبهم أو في الداخل حيث أعلن الجيش عن توقيف بعض من شاركوا بالمسيرات الإستفزازية رغم تكرار مشهد الدراجات في اليوم التالي انطلاقاً من الرويسات والزعيترية في ساحل المتن.

تمديد وقف إطلاق النار وتالياً تأخير الانسحاب الإسرائيلي الكامل حتى 18/2/2025 ساري المفعول ولن يستطيع "الحزب" الإطاحة به. فهل يطل حينها معلناً نصراً جديداً؟! إنها طقوس الإنكار والهرب الى الأمام.