يختلف الافرقاء السياسيون اللبنانيون على تأليف الحكومة التي يفترض أن يكون في مقدَّم مهماتها تنفيذ القرار الدولي الرقم 1701 في الجنوب. في المقابل تتخذ إسرائيل من هذا الخلاف ذريعة للتهرب من الانسحاب من المنطقة الحدودية التي احتلتها في حربها الاخيرة على لبنان خلافا للاتفاق على وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 27 تشرين الثاني الماضي. هذا الاتفاق يقضي بانسحابها الكامل من منطقة جنوب نهر الليطاني خلال مهلة ستين يوما بدأ سريانها منذ توقف اطلاق النار، لكي ينتشر فيها الجيش اللبناني وقوات حفظ السلام الدولية ( اليونيفيل) باشراف اللجنة الخماسية لمراقبة وقف اطلاق النار برئاسة الجنرال الاميركي جاسبر جيفرز. في هذا الوقت ينسحب "حزب الله" أيضًا منها عسكريا الى شمال نهر الليطاني على أن يتم تفكيك أي منشآت وقواعد عسكرية ومصادرة أي أسلحة وذخائر له يعثر عليها فيها، بحيث تكون المنطقة خالية من أي وجود مسلح لغير القوات المسلّحة اللبنانية واليونيفيل. يبدأ بعد ذلك تنفيذ القرار الدولي 1701 بكل مندرجاته ويتم تثبيت الحدود الجنوبية اللبنانية على أساس اتفاق الهدنة المعمول به منذ آذار 1949.

وقد انتهت مهلة الستين يوما المنصوص عنها في اتفاق وقف النار ولم تنسحب اسرائيل كليا مستفيدة من موقف اميركي اعتبره البعض متماهيا معها أو متفهّمًا لموقفها بما يشجعها على عدم الانسحاب. ولذلك لن تجد غضاضة في استمرار الخلاف الداخلي اللبناني على تأليف الحكومة فتواصل في هذه الحال استكمال تفجير وتدمير ما أمكنها من بلدات وقرى حدودية احتلتها قبل اتفاق وقف النار أو دخلت إليها بعده علما انها لم تلتزمه منذ الاعلان عنه في 27 تشرين الثاني الماضي. وقد تجاوزت إسرائيل منطقة جنوب نهر الليطاني إلى شماله ووصلت أحيانا منطقة البقاع متذرِّعة بأن "حزب الله" لم يلتزم الاتفاق ويستمر في التسلح والاستعداد لجولة قتالية جديدة في مرحلة لاحقة. لم يردّ "الحزب" على أيّ من الخروق الاسرائيلية إلا مرة واحدة استهدفت منطقة مزارع شبعا وقيل إن الغاية من الرد توجيه رسالتين تحذريتين، الأولى إلى للجنة المكلفة مراقبة وقف اطلاق النار وتنفيذ القرار 1701 لكي تتدخل وتضع حدا لهذه الخروق، والثانية إلى إسرائيل لتبدأ بسحب قواتها مثل بدأ هو بالانسحاب من جنوب الليطاني في ظل بدء الجيش اللبناني انتشاره يوم اعلان وقف النار.

ومع أن الحكومة الجديدة ستشكل عاجلا أو آجلا وإذا اقتضى الامر بضغط الجهات العربية والدولية نفسها التي ضغطت على الافرقاء السياسيين وأجبرتهم على انتخاب رئيس الجمهورية العماد جوزف عون، فإن هؤلاء الأفرقاء ما زالوا يمارسون ترف تضييع الوقت والاستمرار في الرهان على المتغيرات داخليا وخارجيا. فكلٌ ما زال يغني على ليلاه ويعمل على ترجيح الكفّة لمصلحته استعدادا للمرحلة الجديدة المقبلة على لبنان والمنطقة.

بعض من يرفض توزير شيعي لحقيبة المالية يطالب بتولّي حقائب سيادية وخدماتية مهمة لم يتمكن الرئيس المكلَّف بعد من تلبيتها نتيجة تنافس أكثر من طرف عليها

وفي الوقت الذي يقال ان "الثنائي الشيعي" اتفق والرئيس المكلّف نواف سلام على أن تكون حقيبة وزارة المال للطائفة الشيعية كونها تعطيها صلاحية "التوقيع الثالث" لتأمين "التوازن" في السلطة التنفيذية، لم يصدر عن الرئيس المكلّف اي شيء واضح في هذا الاتجاه. قيل إن هذا الاتفاق حصل بينه وبين "الثنائي" ولكنه اصطدم باعتراض أفرقاء آخرين على "شيعية" وزارة المال الذين طالبوت بإسنادها الى طائفة أخرى في إطار المداورة في الحكومة الجديدة التي تختلف في ظروفها عن حكومة تصريف الأعمال الحالية وبعض الحكومات السابقة.

لكن بعض المشتغلين في التأليف الحكومي يقولون إن المعنيّين حسموا إسناد وزارة المال الى "الثنائي" وإن بعض الإرادات الخارجية أيّدت هذا الأمر. ولكن بعض من يرفض توزير شيعي لحقيبة المالية يطالب بتولّي حقائب سيادية وخدماتية مهمة لم يتمكن الرئيس المكلَّف بعد من تلبيتها نتيجة تنافس أكثر من طرف عليها. لذا، وجّه هؤلاء الاتهام الى "الثنائي الشيعى" بتعطيل تأليف الحكومة نتيجة تمسكه بوزارة المال.

وتقول اوساط معنيّة إنّ مرَدَّ التأخر في الولادة الحكومية في بعض جوانبه هو أنّ الحكومة الجديدة ستكون حكومة إجراء الانتخابات النيابية في ربيع سنة 2026 والتي يراد لها ان تكون مفصلية وعلى أساس قانون انتخابي جديد يعتمد النظام النسبي كما حدده اتفاق الطائف. ولذلك فكلّ فريق سيتمثل في الحكومة يطمح للحصول على حقائب يمكنها ان تساعده على تعزيز رصيده التمثيلي وبالتالي الفوز بما امكنه من المقاعد النيابية في البرلمان.

ويبدو أنّ زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان الاخيرة للبنان لم تغيّر في واقع تأليف الحكومة شيئًا. فالرجل استودع المسؤولين والقيادات السياسية التي التقاها نصيحة الإسراع في تأليف الحكومة وإطلاق عجلة الإصلاحات المطلوبة داخليا وعربيا ودوليا لكي تتحرك بعد ذلك آليات الدعم العربي والدولي للبنان. ولم يتطرّق رئيس الديبلوماسية السعودية في محادثاته إلى تفاصيل التأليف الحكومي والعقبات التي تؤخره. وكذلك فعل وزير الخارجية الكويتي عبدالله علي اليحيا الذي زار لبنان غداة زيارة بن فرحان، وحضّ بدوره المسؤولين اللبنانيين على الإسراع في تأليف الحكومة لأن الكويت وبقية دول مجلس التعاون الخليجي تعِدّ برنامجا لمساعدة لبنان لكنها تنتظر استكمال بناء السلطة الجديدة لكي تبدأ بتقديم المساعدات اللازمة للدولة اللبنانية.

ولا يبدو أيضاً أنّ السجالات الدائرة بين بعض القوى السياسية وتبادل الاتهامات بالعرقلة والتعطيل، ولا سيّما السجال الحادّ والعالي النبرة بين حزب "القوات اللبنانية " وحركة "أمل"، تؤثر على إصرار عون وسلام على تأليف الحكومة في اسرع وقت. وهما متنبهان الى ان تأخر الولادة الحكومية سيأكل من رصيدهما المعنوي ومن وهج الاندفاعة القوية التي نجمت من انتخابهما. ولذا فإنهما يدأبان على محاولة تدوير زوايا المواقف الحادة بما يؤدي الى ولادة حكومة متجانسة وفعالة تليق بالمرحلة الجديدة التي دخلتها البلاد.

وفي ضوء كل ما تقدم حتى الآن، يسود انطباع لدى غالبية الاوساط السياسية وحتى لدى المشتبكين حول الحكومة العتيدة بوزاراتها والاسماء المتداولة لتولّيها، ان هناك قوة دفع اميركية ـ سعودية ستبرز في اللحظة المناسبة وتخرج الحكومة من المخاض، وتنهي "الدلع" الذي يمارسه البعض على سبيل "تحسين الشروط" ولكنهم في قرارة أنفسهم يعرفون ان هامش المناورة امامهم ليس فسيحًا وان المسار الذي بدأ لا يمكن أن يوقفه أحد.