يبدو المشهد مألوفا في واشنطن. رئيس يأتي وينقض سياسات سلَفه التي أقرّها بمراسيم تنفيذية بعدما كان سلَفه فعل الشيء نفسه بالرئيس الذي سبقه. هكذا هي الحال مع الرئيس دونالد ترامب الذي استهل الاثنين الماضي ولايته الرئاسية الثانية -- والأخيرة -- بمجموعة من المراسيم التنفيذية أنهت سياسات الرئيس جو بايدن الذي استهل عهده عام 2021 بنقض سياسات سلّفه، وهو ترامب نفسه. ولا يخفى أن ترامب بدأ ولايته الأولى عامم 2017 بنقض سياسات سلَفه باراك أوباما.

هل انتهت سياسة البيت الأبيض إلى أن ينقض الرئيس الآتي قرارات الرئيس المغادر؟

السياسات الداخلية

لم يُضِع الرئيس ترامب وقتًا في وضع بصمته من جديد على سياسة البيت الأبيض. في يومه الأول في المنصب، وقّع سلسلة من المراسيم التنفيذية لتعزيز أمن الحدود وإعادة صوغ سياسات الهجرة. يتصدر هذه المبادرة عزم متجدد لاستكمال بناء الجدار الحدودي، بعد توفير موازنة أعلى له. وفي موضوع الهجرة أيضا قرّر ترامب إنهاء حق الجنسية بالولادة على الأرض الأميركية. هذان القرارات أثارا نقاشًا محتدمًا حول الهجرة، إذ امتدح المؤيدون نهجه في الأمن القومي في حين دان معارضوه ما سمّوها "الانتهاكات المحتملة لحقوق الإنسان".

على الصعيد الاقتصادي، كشف ترامب عن حزمة جديدة من تخفيضات ضريبية تستهدف الأُسَر ذات الدخل المتوسط والشركات الصغيرة، مؤكدًا أن هذه التدابير ستُحفّز النمو وتعزّز إنفاق المستهلكين بعد جائحة كورونا. ومع ذلك، فإن شكوك المعارضين في استدامة هذه التخفيضات الضريبية تثير المخاوف من عجز أكبر في الميزانية على المدى الطويل.

في خطوة أخرى مثيرة للجدل، أعلنت إدارة ترامب عن تغييرات كبيرة في قانون الرعاية الميسّرة -- وهي الإصلاح في الرعاية الصحية الذي أقرّه الرئيس أوباما ولم يستطع ترامب تغييره في رئاسته الأولى -- ظاهريًا بهدف تعزيز المنافسة بين مقدمي الخدمات التأمينية. وحذّر المعارضون من عواقب وخيمة في المجال الصحي، مشيرين إلى أن ملايين الأشخاص قد يفقدون تغطيتهم نتيجة لذلك.

بعد ذلك، انتقل ترامب إلى إلغاء العديد من التنظيمات المتعلقة بالبيئة في محاولة لتعزيز القاعدة الصناعية الأميركية وتأكيد انسحابه من اتفاقية باريس بشأن المناخ. وقد أثار هذا القرار غضب الناشطين البيئيين، الذين يتّهمون ترامب بتقويض الجهود العالمية لمكافحة تغيّر المناخ.

ردود فعل سلبيّة

لأثار هذا الدفق من الإجراءات التنفيذية ردود فعل متباينة داخل الولايات المتحدة. فبعد أيام فقط من تولي ترامب الرئاسة، واجهت الإدارة انتكاسة عندما اتّخذ قاض اتحادي قرارا أوقف مؤقتا العمل بالمرسوم التنفيذي الذي ألغى بموجبه ترامب حق اكتساب الجنسية بالولادة، وهو حق أقرّه التعديل الرابع عشر للدستور الأميركي. ويؤشر هذا الحكم القضائي إلى عقبات قانونية معقّدة، أهمّها أن إلغاء مثل هذا القرار يحتاج إلى تعديل دستوري وليس إلى مرسوم تنفيذي.

وقد بدأ المدافعون عن إصلاح الهجرة والوصول إلى الرعاية الصحية بتنظيم احتجاجات، بما يسجل عودة موجة من النشاط الشعبي تذكرنا بالسنوات السابقة.

السياسة الخارجية

تواجه أجندة السياسة الخارجية لفترة ترامب الثانية تحديات كبيرة، لا سيما في المشهد الجيوسياسي الشديد التعقيد في الشرق الأوسط وأوكرانيا. مع تصاعد التوترات، يعتمد نجاح الإدارة على قدرتها في التنقل في هذه المياه المضطربة مع الحفاظ على مكانة أميركا على الصعيد العالمي.

في الشرق الأوسط، يستمر انحياز ترامب التاريخي إلى إسرائيل في تشكيل سياسته الخارجية. وقد تميزت فترة ولايته الأولى باتفاقيات تطبيع بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، ومن المرجَّح أن تستمر هذه الاتجاهات بعد النتائج الكارثية للهجوم الذي شنته حماس في السابع من تشرين الأوّل 2023 ارتدادات ذلك على غزة وجنوب لبنان وسقوط النظام في سوريا.

حتى الآن رفضت إدارة ترامب طلب الحكومة الإسرائيلية تمديد فترة بقاء قواتها العسكرية في خمس نقاط متقدمة في جنوب لبنان بعد الموعد النهائي للانسحاب المحدد في 27 يناير 2025. ولا شك أنّ ترامب يدرك تماماً أنّ تبنّي موقف قوي بشأن التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار يعزز صورته كزعيم صلب في الشؤون الخارجية، خصوصًا بالنظر إلى دعمه التاريخي لمصالح إسرائيل. ومع ذلك، سيكون من الضروري الموازنة بين ذلك وبين الحقائق على الأرض - مثل ما بقي من قدرات عسكرية لدى "حزب الله" والتوترات الإقليمية - بينما يسعى إلى تأكيد نفوذ الولايات المتحدة في الجغرافيا السياسية الشرق أوسطية.

وفي الشرق الأوسط أيضًا تظل إيران خصمًا في المنطقة. على الرغم من النكسات، تسعى الحكومة الإيرانية للتفاوض على اتفاق نووي جديد لتعزيز نفوذها الإقليمي. حتى الآن، أظهر ترامب القليل من الاستعداد للتوصل إلى تسويات، ويربط المفاوضات بإطار جيوسياسي أوسع.

في الوقت نفسه، على ترامب مواجهة الميول التوسعية الروسية في أوكرانيا. على عكس الدعم العلني الذي قدّمه بايدن لأوكرانيا، اتخذ ترامب موقفًا أكثر حذرًا، مقترحًا على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن النصر على روسيا قد يكون غير ممكن. وفي الوقت نفسه، أوضح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضرورة التفاوض لإنهاء الأعمال العدائية أو المخاطرة بفرض عقوبات أشد على روسيا.

التحديات المقبلة

أعادت الشعبوية وصورة الزعيم القوي ترامب إلى البيت الأبيض. ومع ذلك، فإنه يواجه طريقًا مليئًا بالعقبات لتحقيق وعوده الطموحة. بينما قد يبدو أن الكونغرس الخاضع للجمهوريين يسهّل بعض جوانب أجندته، فإن العديد من مبادراته ستحتاج إلى دعم من الحزبين معا، وقد تتعرض للعرقلة في مجلس الشيوخ. ومع وجود أغلبية ضئيلة في مجلس النواب، من المحتمل أن تظهر معارضة. من داخل الحزب الجمهوري.